خالد بن الوليد***سيف الله المسلول***
صفحة 1 من اصل 1
خالد بن الوليد***سيف الله المسلول***
خَالِدُ بنُ الوَلِيدِ
***
((لا ينام ، ولا يترك أحد ينام!!))
..........
إن أمره لعجب ... !!
هذا الفاتك بالمسلمين يوم أُحُد والفاتك بأعداء الإسلام بقيَّة الأيام ... !!
ألا فلنأت على قصته من البداية ..
ولكن أيّة بداية ..؟؟
إنه هو نفسه ، لا يكاد يعرف لحياته بدءاً إلا ذلك اليوم الذي صافح فيه الرسول مُبايعاً ... ولو استطاع لنحّى عن عمره وحياته كل ما سبق ذلك اليوم من سنين ، وأيام ...فلنبدأ معه إذاً من حيث يحب ...من تلك اللحظة الباهرة التي خشع فيها قلبه لله ، وتلقّت روحه فيها لمسة من يمين الرحمن ـ وكلتا يديه يمين ـ ؛ فتفجّرت شوقاً إلى دينه ، وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم وإلى استشهاد عظيم في سبيل الحق ّ ، ينضو عن كاهله أوزار مُناصرته الباطل في أيّامه الخاليات ...
لقد خلا ـ يوماً ـ إلى نفسه ، وأدار خواطره الرشيدة على الدين الجديد الذي تزداد راياته كل يوم تألقاً وارتفاعاً ، وتمنّى على الله علام الغيوب أن يمدَّ إليه من الهدى بسبب ... والتَمَعَت في فؤاده الذكي بشائر اليقين ، فقال :
((واللهِ لقد استقام المنْسِم .. وإنّ الرجل لرسول .. فحتّى متى ..؟؟ .. أذهبُ واللهِ ، فأُسلم)) ..
ولنصغِ إليه ـ رضي الله عنه ـ يحدثنا عن مسيره المبارك إلى رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ ، وعن رحلته من مكة إلى المدينة ؛ ليأخذ مكانه في قافلة المؤمنين :
((..وَودِدتُ لو أجد من أصاحب ، فلقيتُ عثمان بن طلحة ، فذكرتُ له الذي أريد ؛ فأسرع الإجابة ، وخرجنا جميعاً فأدْلجنا سَحَراً ...فلمَّا كنّا بالسهل إذا عمرو بن العاص ، فقال : مرحباً بالقوم ، قلنا : وَبك ...
قال : أين مسيركم ؟ فأخبرناه ، وأخبرنا ـ أيضاً ـ أنّه يريد النبي صلى الله عليه وسلم ؛ ليُسلم .
فاصطحبنا حتى قدِمنا المدينة أول يوم من صفر سنة ثمان .. فلمّا اطَّلعتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمت عليه بالنبوَّة فردّ عليّ السلام بوجه طلق ، فأسلمتُ وشهدت شهادة الحق .. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم :
"قد كنت أرى لك عقلاً رجوت ألا يُسلمك إلا إلى خير" ..
وبايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلت : استغفر لي كل ما أوضَعتُ فيه من صدٍّ عن سبيل الله ..
فقال : إنّ الإسلام يجبُّ ما كان قبله ..
قلت: يا رسول الله على ذلك ..
فقال : اللّهمّ اغفر لخالد بن الوليد كل ما أوضع فيه مِن صدٍّ عن سبيلك ..
وتقدّم عمرو بن العاص ، وعثمان بن طلحة ، فأسلما وبايعا رسول الله)) ..
أرأيتم قوله للرسول صلى الله عليه وسلم : ((استغفر لي كل ما أوضَعتُ فيه من صدٍّ عن سبيل الله)) ..؟؟
إنّ الذي يضع على هذه العبارة بصره وبَصيرته ، سيهتدي إلى فهم صحيح لتلك المواقف التي تشبه الألغاز في حياة سيف الله وبطل الإسلام ...
وعندما نبلغ تلك المواقف في قصة حياته ستكون هذه العبارة دليلنا لفهمها وتفسيرها ... أما الآن ، فمع ((خالد)) الذي أسلم لتوّه ؛ لنرى فارس قريش وصاحب أعنّة الخيل فيها ، لنرى داهية العرب كافة في دنيا الكرِّ والفرِّ ، يعطي لآلهة آبائه وأمجاد قومه ظهره ، ويستقبل مع الرسول والمسلمين عالماً جديداً ، كتب الله له أن ينهض تحت راية محمد صلى الله عليه وسلم وكلمة التوحيد ...
مع خالد ـ إذاً ـ وقد أسلم ، لنرى من أمره عجباً ...!!!
أتذكرون نبأ الثلاثة الشهداء أبطال معركة مؤتة ..؟؟
لقد كانوا : زيد بن حارثة ، وجعفر بن أبي طالب ، وعبد الله بن رواحة ـ رضي الله عنهم جميعاً ـ ...
لقد كانوا أبطال غزوة ((مُؤتَة)) بأرض الشام .. تلك الغزوة التي حشد لها الروم مئتي ألف مقاتل ، والتي أبلى المسلمون فيها بلاء منقطع النظير ...
وتذكرون العبارة الجليلة الآسية التي نعى بها الرسول صلى الله عليه وسلم قادة المعركة الثلاثة حين قال :
((أخذ الراية (زيد بن حارثة) فقاتل بها ، حتى قُتل شهيداً .. ثم أخذها (جعفر) فقاتل بها ، حتى قُتل شهيداً .. ثم أخذها (عبد الله بن رواحَة) فقاتل بها ، حتى قُتل شهيداً)) .
كان لحديث رسول الله هذا بقيَّة ، ادَّخرناها لمكانها على هذه الصفحات ..
هذه البقيّة هي :
((ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله ؛ ففتح الله على يديه)) .
فمن كان هذا البطل ..؟؟
لقد كان ((خالد بن الوليد)) .. الذي سارع إلى غزوة ((مؤتة)) جندياً عاديّاً تحت قيادة القوّاد الثلاثة الذين جعلهم الرسول صلى الله عليه وسلم على الجيش : زيد ، وجعفر ، وابن رواحة ـ رضي الله عنهم جميعاً ـ والذين استشهدوا بنفس الترتيب على أرض المعركة الضاربة ...
وبعد سقوط آخر القوّاد شهيداً ، سارع إلى اللواء ((ثابت بن أقرم)) فحمله بيمينه ورفعه عالياً وسط الجيش المسلم حتى لا تُبعثر الفوضى صفوفه ..
ولم يكد((ثابت)) يحمل الراية حتى توجّه بها مسرعاً إلى خالد بن الوليد ، قائلاً له : ((خذ اللواء يا أبا سُليمان)) ..ولم يجد خالد من حقّه ، وهو حديث العهد بالإسلام أن يقود قوماً فيهم الأنصار والمهاجرون الذين سبقوه بالإسلام .
أدب ، وتواضع ، وعرفان ، ومزايا ، هو لها أهلٌ وبها جدير !!
هنالك قال مجيباً ((ثابت بن أقرم)) :
((لا ...لا آخذ اللواء ، أنت أحقُّ به .. لك سنٌّ وقد شهدتَ بدراً)) .. وأجابه ثابت :
((خذه ، فأنت أدرى بالقتال منّي ، ووالله ، ما أخذته إلا لك)) ..ثم نادى في المسلمين : أترضَوْنَ إمرَةَ خالد ..؟
قالوا : نعم ..
واعتلى العبقري جواده ودفع الراية بيمينه إلى الأمام كأنما يقرع بها أبواباً مغلقة آن لها أن تُفتح على طريق طويل لاحب سيقطعه البطل وثباً..وثباً .. في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وبعد مماته ، حتى تبلغ المقادير بعبقريته الخارقة أمراً كان مقدوراً ...وَلي خالد إمرة الجيش ، بعد أن كان مصير المعركة قد تحقق ؛ فضحايا المسلمين كثيرون ، وجناحهم مهيض .. وجيش الروم في كثرته الساحقة كاسح، ظافر ، مُدمدم .. ولم يكن بوسع أيّة كفاية حربية أن تغيّر من المصير شيئاً ؛ فتجعل المغلوب غالباً ، والغالب مغلوباً ...
وكان العمل الوحيد الذي ينتظر عبقرياً لكي ينجزه ، هو وَقف الخسائر في جيش الإسلام ، والخروج ببقيته سالمة ؛ أي : الانسحاب الوقائي الذي يحول دن هلاك بقية القوة المقاتلة على أرض المعركة .
بيد أنَّ انسحاباً كهذا كان من الاستحالة بمكان ..
ولكن إذا كان صحيحاً أنّه (( لا مستحيل على القلب الشجاع )) فمن أشجع من خالد قلباً ، ومن أروع عبقريةً وأنفذ بصيرة ..؟؟!
هنالك تقدّم سيف الله يرمق أرض القتال الواسعة بعينين ؛ كعيني الصقر ، ويديرالخطط في بديهته بسرعة الضوء .. ويقسم جيشه ـ والقتال دائر ـ إلى مجموعات ، ثم يكل إلى كل مجموعة بمهامها ... وراح يستعمل فنّه المعجز ودهائه البليغ حتى فتح في صفوف جيش الروم ثغرة فسيحة واسعة ، خرج منها جيش المسلمين كله سليماً معافى بعد أن نجا بسبب من عبقرية بطل الإسلام من كارثة ماحقة ما كان لها من زوال ..!!
وفي هذه المعركة أنعم الرسول صلى الله عليه وسلم على خالد بهذا اللقب العظيم .
وتنكث قريش عهدها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فيتحرك المسلمون بقيادته لفتح مكة .. وعلى الجناح الأيمن من الجيش ، يجعل الرسول خالد بن الوليد أميراً ...
ويدخل ((خالد)) مكة واحداً قادة من الجيش المسلم والأمة المسلمة ، بعد أن شهدته سهولها وجبالها قائداً من قوّاد جيش الوثنية والشرك زمناً طويلاً ..
وتخطر له ذكريات الطفولة ، حيث مراتعها الحلوة .. وذكريات الشباب ، حيث ملاهيه الصاخبة ... ثم تستجيشه ذكريات الأيام الطويلة التي ضاع فيها عمره قرباناً خاسراً لأصنام عاجزة كاسدة ... وقبل أن يعضّ الندم فؤاده ينتفض تحت روعة المشهد وجلاله ...
مشهد النور الزاحف على مكة .. مشهد المستضعفين الذين لا تزال جسومهم تحمل آثار العذاب والهول ، يعودون إلى البلد الذي أخرجوا منه بَغْياً وعَدْواً ، يعودون إليه على صهوات جيادهم الصاهلة ، وتحت رايات الإسلام الخافقة .. وقد تحول همسهم الذي كانوا يتناجون به في دار الأرقم بالأمس ـ إلى تكبيرات صادعة رائعة ترجّ مكة رجّاً ، وتهليلات باهرة ظافرة ، يبدو الكون معها ؛ وكأنه كله في عيد ..!!
كيف تمت المعجزة ..؟؟
أي تفسير لهذا الذي حدث ؟
لا شيء ... لا شيء إلا هذه الآية التي يردّدها الزاحفون الظافرون وسط تهليلاتهم وتكبيراتهم حين ينظر بعضهم إلى بعض فرحين قائلين :
(( وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ )) :الروم: 6
ويرفع خالد رأسه إلى أعلى ، ويرمق في إجلال وغبطة وحُبور رايات الإسلام تملأ الأفق .. فيقول لنفسه :
أجل .. إنه وعد الله ، ولا يُخلف الله وعده ..!!
ثم يحني رأسه شاكراً نعمة ربه الذي هداه للإسلام وجعله في يوم الفتح العظيم هذا ، واحداً من الذين يحملون الإسلام إلى مكة .. وليس من الذين سيحملهم الفتح على الإسلام ..
ويظل خالد إلى جانب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وضعاً كفاياته المتفوقة في خدمة الدين الذي آمن به من كل يقينه ، ونذر له كل حياته .
وبعد أن يلحق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى ، ويحمل أبو بكر الصدّيق مسؤولية الخلافة ، وتهبّ أعاصير الردّة غادرة ماكرة ، مطوقّة الدين الجديد بزئيرها المصمّ وانتفاضها المُدمدم .. يضع أبو بكر عينه لأول وهلة على بطل الموقف ورجل الساعة .. أبي سليمان ، سيف الله ، خالد بن الوليد ..!!
وصحيح أن أبا بكر لم يبدأ معارك المرتدين إلا بجيش قاده هو بنفسه ، ولكن ذلك لا يمنع أنّه ادّخر خالداً ليوم الفصل ، وأنّ خالداً في المعركة الفاصلة التي كانت أخطر معارك الردّة جميعاً ، كان رجلها الفذ وبطلها الملهم ...
عندما بدأت جموع المرتدين تتهيأ لإنجاز مؤامراتها الضخمة ، صمّم الخليفة العظيم أبو بكر على أن يقود جيش المسلمين بنفسه ، ووقف زعماء الصحابة يبذلون محاولات يائسة لصدّه عن هذا العزم ، ولكنه ازداد تصميماً .. ولعله بهذا أراد أن يعطي القضية التي دعا الناس لخوض الحرب من أجلها أهمية وقداسة ، لا يؤكدها في رأيه إلا اشتراكه الفعلي في المعارك الضارية التي ستدور رحاها بين قوى الإيمان ، وبين جيوش الردة والضلال ، وإلا قيادته المباشرة لبعض أو لكل القوات المُسلمة ..
ولقد كانت انتفاضات الردة بالغة الخطورة ، على الرغم من أنها بدأت وكأنها تمرّد عارض ..لقد وجد فيها جميع الموتورين من الإسلام والمتربصين به فرصتهم النادرة ، سواء بين قبائل العرب أن على الحدود ، حيث يجثم سلطان الروم والفرس ، هذا السلطان الذي بدأ يحسُّ خطر الإسلام الأكبر عليه ، فراح يدفع الفتنة في طريقه من وراء ستار ..!!
ونشبت نيران الفتنة في قبائل : أسد ، وغطفان ، وعبس ،وطيئ ، وذبيان ...
ثم في قبائل : بني عامر ، وهوازن ، وسليم ، وبني تميم ..
ولم تكد المناوشات تبدأ حتى استحالت إلى جيوش جرارة قوامها عشرات الألوف من المقاتلين ...
واستجاب للمؤامرة الرهيبة أهل البحرين ، وعُمان ، والمهرة ، وواجه الإسلام أخطر محنة ، واشتعلت الأرض من حول المسلمين ناراً ... ولكن ، كان هناك أبو بكر ..!!
عبَّأ أبو بكر المسلمين وقادهم إلى حيث كانت قبائل بني عبس ، وبني مرة ، وذبيان قد خرجوا في جيش لَجِب ..
ودار القتال ، وتطاول ، ثم كُتب للمسلمين نصر مؤزّر وعظيم ...
ولم يكد الجيش المنتصر يستقر بالمدينة حتى ندبه الخليفة للمعركة التالية ... وكانت أنباء المرتدين وتجمعاتهم تزداد كل ساعة خطورة .. وخرج أبو بكر على رأس هذا الجيش الثاني ، ولكنّ كبار الصحابة يفرغ صبرهم ، ويجمعون على بقاء الخليفة بالمدينة ، ويعترض الإمام ((علي)) طريق أبي بكر ويأخذ بزمام راحلته التي كان يركبها وهو ماض أمتم جيشه الزاحف ، فيقول له :
((إلى أين يا خليفة رسول الله ..؟؟
إني أقول لك ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسم يوم أُحُد : لُمَّ سيفك يا أبا بكر ، ولا تَفجَعنا بنفسك ..)) .
وأمام إجماع مُصمم من المسلمين ، رضي الخليفة أن يبقى بالمدينة وقسّم الجيش إلى إحدى عشرة مجموعة .. رسم لكل مجموعة دورها ...
وعلى مجموعة ضخمة من تلك المجموعات كان خالد بن الوليد أميراً .. ولمّا عقد الخليفة لكل أمير لواءه ، اتجه صوب خالد وقال يخاطبه:
((سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : نِعم عبدُ الله وأخو العشيرة ، خالد بن الوليد ، سيف من سيوف الله سلّه الله على الكُفار والمنافقين)) ..
ومضى خالد إلى سبيله ينتقل بجيشه من معركة إلى معركة ، ومن نصر إلى نصر حتى كانت المعركة الفاصلة ...
فهناك باليمامة كان بنو حنيفة ومن انحاز إليهم من القبائل ، قد جيشوا أخطر جيوش الردة قاطبة ، يقوده ((مسليمة الكذّاب)) ...
وكانت بعض القوات المسلمة قد جرّبت حظّها مع جيش مسيلمة ، فلم تبلغ منه منالاً .. وجاء أمر الخليفة إلى قائده ((المظفَّر)) أن سرْ إلى بني حنيفة .. وسار خالد ..
ولم يكد ((مسيلمة)) يعلم أن ابن الوليد في الطريق إليه حتى أعاد تنظيم جيشه وجعل منه خطراً حقيقاً ، وخصماً رهيباً ..
والتقى الجيشان ...
وحين تُطالع في كتب السيرة والتاريخ سَيرَ تلك المعركة الهائلة ، تأخذك رهبة مُضنية ، إذ تجد نفسك أمام معركة أشبه في ضراوتها وجبروتها معارك حروبنا الحديثة ، وإن تخلّفت عنها في نوع السلاح وظروف القتال ..
ونزل خالد بجيشه على كثيب مُشرف على اليمامة ، وأقبل مسيلمة في خُيلائه وبغيه ، صفوف جيشه من الكثرة كأنها لا تؤذن بانتهاء ..!!
وسلم خالد الألوية والرايات لقادة جيشه ، والتَحم الجيشان ودار قتال رهيب .. ثمّ رهيب .. وسقط شهداء المسلمين تباعاً ؛ كزهور حديقة طوَّحت بها عاصفة عنيدة ..!!
وأبصر خالد رجحان كفّة الأعداء ، فاعتلى بجواده ربوة قريبة وألقى على المعركة نظرة سريعة ، ذكية وعميقة .. ومن فوره أدرك نقاط الضعف في جيشه وأحصاها ..
رأى الشعور بالمسؤولية قد وهن تحت وقع المفاجأة التي دهمهم بها جيش مسيلمة ، فقرر في نفس اللحظة أن يشدّ في أفئدة المسلمين جميعاً زناد المسؤولية إلى أقصاه ..فمضى ينادي إليه فيالق جيشه وأجنحته ، وأعاد تنسيق مواقعه على أرض المعركة ، ثم صاح بصوته المنتصر :
((امتازوا؛ لنرى اليوم بلاء كل حيّ)) .
وامتازوا جميعاً ..
مضى المهاجرون تحت رايتهم ، والأنصار تحت رايتهم ، ((وكلُّ بني أب على رايتهم)).
وهكذا صار واضحاً تماماً ، من أين تجيء الهزيمة حين تجيء؟ ..واشتعلت الأنفس حماسة ...واتّقدت مضاء ، وامتلأت عزماً وروعة ..
وخالد بين الحين والحين ، يرسل تكبيرة أو تهليلة أو صيحة يلقي بها أمراً ، فتتحول سيوف جيشه إلى مقادير لا رادّ لأمرها ، ولا معوِّق لغاياتها ..
وفي دقائق معدودة تحوّل اتجاه المعركة وراح جنود مسيلمة يتساقطون بالعشرات ، فالمئات ، فالألوف ؛ كذباب حنقت أنفاس الحياة فيه نفثاتُ مُطَهر صاعق مُبيد ..!!
لقد نقل خالد حماسته ؛ كالكهرباء إلى جنوده ، وحلت روحه في جيشه جميعاً ..وتلك كانت إحدى خصال عبقريته الباهرة ..
وهكذا سارت أخطر معارك الردة وأعنف حروبها ، وقُتِل مسيلمة .. وملأت جثث رجاله وجيشه أرض القتال ، وطويت تحت التراب إلى الأبد راية الدّعيّ الكذّاب ..
وفي المدينة صلى الخليفة لربه الكبير المتعال صلاة الشكر ؛ إذ منحهم هذا النصر ، وهذا البطل ... وكان أبو بكر قد أدرك بفطنته وبصيرته ما لقوى الشر الجاثمة وراء حدود بلاده من دور خطير في تهديد مصير الإسلام وأهله ..الفرس في العراق ..والروم في بلاد الشام ...
إمبراطوريتان خَرِعَتان تتشبثان بخيوط واهنة من حظوظهما الغاربة ، وتسومان الناس في العراق وفي الشام سوء العذاب ، بل وتسخرهم ـ وأكثرهم عَرب ـ لقتال المسلمين العرب الذين يحملون راية الدين الجديد ، ويضربون بمعاوله قلاع العالم القديم كله ، ويجتثون عفَنه وفساده ..!
هنالك ، أرسل الخليفة العظيم المبارك توجيهاته إلى خالد أن يمضي بجيشه صوب العراق .. ويمضي البطل إلى العراق ، وليت هذه الصفحات كانت تتسع لِتَتَبُّع مواكب نصره ؛ إذاً لرأينا من أمرها عجباً .
لقد استهلَّ عمله في العراق بكُتب أرسلها إلى جميع وُلاة كسرى ونوابه على ألوية العراق ومدائنه ...
((بسم الله الرحمن الرحيم
من خالد بن الوليد .. إلى مرازبة فارس ... سلام على من اتَّبع الهُدى
أما بعد ، فالحمد لله الذي فضَّ خدمَكم ، وسَلب مُلككم ، ووهَّن كيدكم
مَن صلّى صلاتنا ، واستقبل قبلتنا ، وأكل ذبيحنا فذلكم المسلم ، له ما لنا وعليه ما علينا ، إذا جاءكم كتابي فابعثوا إليَّ بالرُّهن واعتقدوا منّي الذمَّة ...
وإلا ، فوالذي لا إله غيره ، لأبعثنَّ إليكم قوماً يحبون الموت كما تحبون الحياة)) .!!!
وجاءته طلائعه التي بثّها في كل مكان بأنباء الزّحوف الكثيرة التي يُعدها له قوّاد الفرس في العراق ، فلم يضيّع وقته ، وراح يقذف بجنوده على الباطل لِيدمغَه .. وطويت له الأرض طيَّاً عجيباً .
في الأُبُلَّة ، إلى السدير ، فالنجف ، إلى الحيرة ، فالأنبار ، فالكاظمية ، مواكب نصر تتبعها مواكب .. وفي كل مكان تُهلُّ به رياحه البُشريات ترتفع للإسلام راية يأوي إلى فيّها الضعفاء والمستعبدون .
أجل ، الضعفاء والمستعبدون من أهل البلد الذين كان الفرس يستعمرونهم ، ويسومونهم العذاب ..
وكم كان رائعاً من خالد أن بدأ زحفه بأمر أصدره إلى جميع قواته :
((لا تتعرضوا للفلاحين بسوء ، دعوهم في شغلهم آمنين ، إلا أن يخرج بعضهم لقتالكم ، فآنئذ قاتلوا المقاتلين)) .
وسار بجيشه الظافر ؛ كالسكين في الزبد الطريّ حتى وقف على تخوم الشام ...وهناك دوّت أصوات المؤذنين ، وتكبيرات الفاتحين .
تُرى ، هل سمع الروم في الشام ..؟؟
وهل تبيّنوا في هذه التكبيرات نعي أيامهم ، وعالمهم ..؟؟
أجل ، سمعوا وفزعوا .. وقرّروا أن يخوضوا في جنون معركة اليأس والضياع ..!
كان النصر الذي أحرزه الإسلام على الفرس في العراق بشيراً مِثله على الروم في الشام .. فجنّد الصّدّيق أبو بكر جيوشاً عديدة ، واختار لإمارتها نفراً من القادة المهرة ((أبو عبيدة بن الجراح)) ...و((عمرو بن العاص)) ..و((يزيد بن أبي سفيان)) ، ثم ((معاوية بن أبي سفيان)) .. وعندما نمت أخبار هذه الجيوش إلى إمبراطور الروم نصح وزراءه وقواده بمصالحة المسلمين ، وعدم الدخول معهم في حرب خاسرة ..
بيد أن وزراءه وقواده أصرّوا على القتال وقالوا :
((والله لنشغلنَّ أبا بكر عن أن يُوردَ خيله إلى أرضنا)) .. وأعدوا للقتال جيشاً بلغ قوامه مئتي ألف مقاتل ، وأربعين ألفاً .
وأرسل قادة المسلمين إلى الخليفة بالصورة الرهيبة للموقف ، فقال أبو بكر :
((والله لأشفِيَنَّ وَساوسهم بخالد)).!!!
وتلقّى ((تِرياق الوساوس)) .. وساوس التمرّد ، والعدوان ، والشرك ، تلقّى أمر الخليفة بالزحف إلى الشام ؛ ليكون أميراً على جيوش الإسلام التي سبقته إليها ... وما أسرع ما امتثل خالد وأطاع ، فترك على العراق ((المُثنّى بن حارثة)) وسار مع قواته التي اختارها حتى وصل مواقع المسلمين بأرض الشام ، وأنجز بعبقريته الباهرة تنظيم الجيش المسلم وتنسيق مواقعه في وقت وجيز ، وبين يدي المعركة واللقاء ، وقف في المقاتلين خطيباً ، فقال ـ بعد أن حمد ربّه وأثنى عليه ـ :
((إن هذا يوم من أيام الله ، لا ينبغي فيه الفخر ولا البغي ... أخلصوا جهادكم ، وأريدوا الله بعملكم ، وتعالوا نتعاور الإمارة ـ أي: نتبادلها ـ فيكون أحدنا اليوم أميراً ، والآخر غداً ، والآخر بعد غد ، حتى يتأمّر كلكم))..
هذا يوم من أيام الله .. ما أروعها من بداية ...!!
لا ينبغي فيه الفخر ولا البغي ... وهذه أكثر روعة وأوفى ورعاً!!
ولم تنقص القائد العظيم الفِطنة المفعمة بالإيثار ، فعلى الرغم من أنّ الخليفة وضعه على رأس الجيش بكل أمرائه ، فإنه لم يشأ أن يكون عوناً للشيطان على أنفس أصحابه ، فتنازل لهم عن حقّه الدائم في الإمارة وجعلها دولةً بينهم جميعاً ...
اليوم أمير ... وغداً أمير ثان .. وبعد غد أمير آخر .. وهكذا ..
كان جيش الروم بأعداده وبعتاده ، شيئاً بالغ الرهبة .. لقد أدرك قواد الروم أن الزمن في صالح المسلمين ، وأن تطاوُل القتال وتكاثر المعارك يهيئان لهم النصر دائماً ؛ من أجل ذلك قرروا أن يحشدوا كل قواهم في معركة واحدة يُجهزون خلالها على العرب ؛ حيث لا يبقى لهم بعدها وجود ، وما من شك في أن المسلمين أحسّوا يوم ذاك من الرهبة والخطر ما ملأ نفوسهم المقدامة قلقاً وخوفاً ..
ولكنّ إيمانهم كان يَخِفّ لخدمتهم في مثل تلك الظلمات الحالكات ؛ فإذا فجرُ الأمل والنصر يغمرهم بسناه ..!!
ومهما يكن بأس الروم وجيوشهم ، فقد قال أبو بكر ـ وهو بالرجال جدُّ خبير ـ :
((خالدٌ لها)) .!!!
وقال : ((والله، لأشفينّ وساوسهم بخالد)).
فليأت الروم بكل هولهم ، فمع المسلمين الترياق ..!!
عبّأ ابن الوليد جيشه ، وقسمه إلى فيالق ، ووضع للهجوم والدفاع خُطة جديدة تتناسب مع طريقة الروم بعد أن خبر وسائل إخوانهم الفرس في العراق .. ورسم للمعركة كل مقاديرها .. ومن العجب أن المعركة دارت كما رسم خالد وتوقّع ، خطوة خطوة ، وحركة حركة ، حتى ليبدو وكأنه لو تنبأ بعدد ضربات السيوف في المعركة ، لما أخطأ التقدير والحساب ..!!
كل مناورة توقعها من الروم صنعوها ..
كل انسحاب تنبأ به فعلوه .. وقبل أن يخوض القتال كان يشغل باله ـ قليلاً ـ احتمال قيام بعض جنود جيشه بالفرار ، ولا سيما أولئك الذين هم حديثو العهد بالإسلام ، بعد أن رأى ما ألقاه منظر جيش الروم من رهبة وجزع ..
وكان خالد يتمثّل عبقرية النصر في شيء واحد ، هو ((الثبات)) .. وكان يرى أن حركة هروب يقوم بها اثنان أو ثلاثة ، يمكن أن تشيع في الجيش من الهلع والتمزّق ما لا يقدرعليه جيش العدوّ بأسه ..
من أجل هذا ، كان صارماً ـ أي صارم ـ تجاه الذي يلقي سلاحه ويولي هارباً .. وفي تلك الموقعة بالذات ((موقعة اليرموك)) ، وبعد أن أخذ جيشه مواقعه ، دعا نساء المسلمين ، ولأول مرة سلّمهن السيوف ، وأمرهن بالوقوف وراء صفوف المسلمين من كل جانب ، وقال لهن :
((من يُولي هارباً ؛ فاقتُلنه))... وكانت لفتة بارعة أدت مهمتها على أحسن وجه ..!!
وقُبيل بدء القتال طلب قائد الروم أن يبرز إليه خالد ؛ ليقول له بضع كلمات ..وبرز إليه خالد ؛حيث تواجها فوق جواديهما في الفراغ الفاصل بين الجيشين ..وقال ((ماهان)) قائد الروم يخاطب خالداً :
((قد علمنا أنه لم يخرجكم من بلادكم إلا الجهد والجوع .. فإن شئتم ، أعطيت كل واحد منكم عشرة دنانير ، وكسوة وطعاماً ، وترجعون إلى بلادكم ، وفي العام القادم أبعث إليكم بمثلها)) .!!
وضغط خالد الرجل والبطل على أسنانه ، وأدرك ما في كلمات قائد الروم من سوء الأدب .. وقرر أن يردّ عليه بجواب مناسب ، فقال له :
((إنه لم يخرجنا من بلادنا الجوع كما ذكرت ؛ ولكننا قوم نشرب الدماء ، وقد علِمنا أنه لا دم أشهى ولا أطيب من دم الروم ؛ فجئنا لذلك))..!!!
ولوى البطل زمام جواده عائداً إلى صفوف جيشه ، ورفع اللواء عالياً مُؤذناً بالقتال .. ((الله أكبر)) .
((هُبِّي رياح الجنة))..
كان جيشه يندفع ؛ كالقذيفة المصبوبة .. ودار قتال ليس لضراوته نظير ..
وأقبل الروم في فيالق ؛ كالجبال ..وبدا لهم من المسلمين ما لم يكونوا يحتسبون .. ورسم المسلمون صوراً تُبهر الألباب من فدائيتهم وثباتهم ..
فهذا أحدهم يقترب من أبي عبيدة بن الجرّاح والقتال دائر ، ويقول : ((إني قد عزمت على الشهادة ، فهل لك من حاجة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبلغها له حين ألقاه))؟؟
فيجيب أبو عبيدة :
((نعم .. قل له : يا رسول الله إنّا قد وجدنا ما وَعدنا ربنا حقّاً)).
ويندفع الرجل ، كالسهم المقذوف ... يندفع وسط الهول مشتاقاً إلى مصرعه ومضجعه ... يَضرب بسيفه ، ويُضرب بآلاف السيوف حتى يرتفع شهيداً ...!!
وهذا ((عكرمة بن أبي جهل)) .. أجل ابن أبي جهل ...!!
ينادي في المسلمين حين ثقلت وطأة الروم عليهم قائلاً :
((لطالما قاتلتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يهديني الله إلى الإسلام ، أَفأَفِرُّ من أعداء الله اليوم ))؟؟
ثم يصيح : ((من يُبايع على الموت))... فبايعه على الموت كوكبة من المسلمين ، ثم ينطلقون معاً إلى قلب المعركة لا باحثين عن النصر ، بل عن الشهادة .. ويتقبّل الله بيعهم وبَيعَتهم ؛ فيستشهدون ..!!
وهؤلاء آخرون أصيبوا بجراح أليمة ، وجيء لهم بماء يبللون به أفواههم ، فلمّا قُدّم الماء إلى أولهم ، أشار للساقي أن أعطِ أخي الذي بجواري ؛ فجرحه أخطر ، وظمؤه أشدّ .. فلمّا قدّم الماء إليه ، أشار بدوره لجاره ، فلمّا انتقل إليه أشار بدوره لجاره .. وهكذا .. حتى جادت أرواح أكثرهم ظامئة .. ولكن أنضر ما تكون تفانياً وإيثاراً ..!!
أجل .. لقد كانت معركة ((اليرموك)) مجالاً لفدائية يعزّ نظيرها .
ومن بين لوحات الفداء الباهرة التي رسمتها عزمات مُقدرة ، تلك اللوحة الفذة ... لوحة تحمل صورة خالد بن الوليد على رأس مئة لا غير من جنده ، ينقضّون على ميسرة الروم ، وعددها أربعون ألف جندي ، وخالد يصيح في المئة الذين معه :
((والذي نفسي بيده ، ما بقي مع الروم من الصبر والجلد إلا ما رأيتم ، وإني لأرجو أن يمنحكم الله أكتافهم)) .
مئة .. يخوضون في أربعين ألفاً .. ثم ينتصرون ..!!
ولكن أيّ عجب؟؟
أليس مِلء قلوبهم إيمان بالله العليّ الكبير ...؟؟
وإيمان برسوله الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم ؟؟
وإيمان بقضية ، هي أكثر قضايا الحياة برّاً ، وهُدى ، ونُبلاً ؟!
وأليس خليفتهم الصّدّيق ـ رضي الله عنه ـ ، هذا الذي ترتفع راياته فوق الدنيا ، بينما هو في المدينة ـ العاصمة الجديدة للعالم الجديد ـ يحلِبُ بيده شِياهَ الأيامى ، ويعجن بيديه خبز اليتامى ...؟؟
وأليس قائدهم ((خالد بن الوليد)) ترياق وساوس التجبر ، والصّلف ، والبغي ، والعدوان ، وسيف الله المسلول على قوى التخلّف ، والتعفّن ، والشِّرك؟؟
أليس ذلك ، كذلك ..؟
إذاً هُبّي رياح النصر ... هُبّي قوية عزيزة ، ظافرة ، قاهرة .
لقد بهرت عبقرية خالد قواد الروم وأمراء جيشهم ؛ مما حمل أحدهم ، واسمه ((جرجه)) على أن يدعوا خالداً للبروز إليه في إحدى فترات الراحة بين القتال .. وحين يلتقيان ، يوجه القائد الروماني حديثه إلى خالد قائلاً :
((يا خالد .. اصدقني ، ولا تكذبني فإنّ الحرّ لا يكذب ..
هل أنزل الله على نبيّكم سيفاً من السماء فأعطاك إياه ، فلا تسلّه على أحد إلا هزمته))؟؟
قال خالد : (( لا... )) .
قال الرجل : ((فبِمَ سُمّيت سيف الله))؟
قال خالد : ((إن الله بعث فينا رسوله صلى الله عليه وسلم ، فمنّا من صدّقه ومنّا من كذّب ... وكنت فيمن كذّب حتى أخذ الله قلوبنا إلى الإسلام ، وهدانا برسوله صلى الله عليه وسلم فبايعناه ... فدعا لي الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقال لي : أنت سيف من سيوف الله ، فهكذا سُمّيت .. سيف الله)) .
قال القائد الروماني : ((وإلام تَدعون)) ..؟
قال خالد : ((إلى توحيد الله ، وإلى الإسلام)) .
قال : ((هل لمن يدخل في الإسلام اليوم مثل ما لكم في المثوبة والأجر))؟
قال خالد : ((نعم ، وأفضل..)) .
قال الرجل : ((كيف ، وقد سبقتموه)) ..؟؟
قال خالد : ((لقد عشنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورأينا آياته ومعجزاته ، وحُقَّ لمن رأى ما رأينا ، وسمع ما سمعنا أن يُسلم في يُسر ..
أمّا أنتم يا مَن لم تَروه ولم تسمعوه ، ثم آمنتم بالغيب ؛ فإن أجركم أجزل وأكبر إذا صَدَقتُم الله سرائركم ونواياكم)) .
وصاح القائد الروماني ، وقد دفع جواده إلى ناحية خالد ، ووقف بجواره :
((علّمني الإسلام يا خالد)) .!!!
وأسلم ... وصلّى لله ركعتين ... لم يُصلّ سواهما ؛ فقد استأنف الجيشان القتال .. وقاتل ((جرجه الروماني)) في صفوف المسلمين مستميتاً في طلب الشهادة حتى نالها وظفر بها ..!!
وبعد فها نحن أولاء نوجه العظمة الإنسانية في مشهد من أبهى مشاهدها .. إذ كان خالد يقود جيش المسلمين في هذه المعركة الضارية ، ويستلُ النصر من بين أنياب الروم استلالاً فذّاً ، بقدر ما هو مُضنٍ ورهيب ، وإذا به يفاجأ بالبريد القادم من المدينة يحمل كتاب الخليفة الجديد ((أمير المؤمنين عمر بن الخطاب)) ..وفيه تحية الفاروق للجيش المسلم ، ونَعْيُه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصّدّيق ، ثم أمره بتنحية خالد عن القيادة ، وتولية ((أبي عبيدة بن الجرّاح)) مكانه ..
قرأ خالد الكتاب ، وهمهم بابتهالات الترحّم على أبي بكر والتوفيق لعمر .. ثم طلب من حامل الكتاب ألا يبوح لأحد بما فيه والزَمَهُ مكاناً أمره ألا يغادره ، وألا يتصل بأحد ..
استأنف قيادته للمعركة مُخفياً موت أبي بكر وأوامر عمر ـ رضي الله عنهما ـ حتى يتحقق النصر الذي بات وشيكاً وقريباً ..
ودقّت ساعة الظّفر ، واندحر الروم .. وتقدّم البطل من أبي عبيدة مؤدياً إليه تحية الجندي لقائده .. وظنّها أبو عبيدة في أول الأمر دعابة من دعابات القائد الذي حقق نصراً لم يكن في الحسبان ... بيد أنه ما فتِئ أن رآها حقيقة وجدّاً ، فقبّل خالداً بين عينيه ، وراح يُطري عظمة نفسه ، وسجاياه ..
وثمّة رواية تاريخية أخرى ، تقول : إن الكتاب أرسل من أمير المؤمنين عمر إلى أبي عبيدة ، وكتم أبو عبيدة النبأ عن خالد حتى انتهت المعركة ...
وسواء كان هذا الأمر أو ذاك ، فإن مَسلَك خالد في كلتا الحالتين هو الذي يعنينا .. ولقد كان مسلكاً بالغ الروعة ، والعظمة ، والجلال .. ولا أعرف في حياة خالد كلها موقفاً ينبئ لإخلاصه العميق وصدقه الوثيق ، مثل هذا الموقف .. فسواء عليه أن يكون أميراً ، أو جنديّاً ..
إن الإمارة ، كالجندية ، كلاهما سبب يؤدي به واجبه نحو الله الذي آمن به ، ونحو الرسول صلى الله عليه وسلم الذي بايعه ، ونحو الدين الذي اعتنقه وسار تحت رايته ..
وجهده المبذول وهو أمير مُطَاع ... كجهده المبذول وهو جندي مُطِيع ..!!
ولقد هيأ له هذا الانتصار العظيم على النفس ، كما هيّأه لغيره طراز الخلفاء الذين كانوا على رأس الأمّة المسلمة والدولة المسلمة يوم ذاك .
أبو بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ ... اسمان لا يكاد يتحرك بهما لسان ، حتى يخطر على البال كل مُعجزٍ من فضائل الإنسان ، وعظمة الإنسان ..
وعلى الرغم من الوُدّ الذي كان مفقوداً ـ أحياناً ـ بين عمر وخالد ، فإن نزاهة عمر ، وعدله ، وورعه ، وعظمَته الخارقة ، لم تكن قطّ موضع تساؤل لدى خالد .. ومن ثم لم تكن قراراته موضع شك ؛ لأن الضمير الذي يُمليها ، قد بلغ من الورع ، ومن الاستقامة ، ومن الإخلاص والصدق أقصى ما يبلغه ضمير مُنزّه ورشيد .
لم يكن أمير المؤمنين عمر يأخذ على خالد من سُوء ، ولكنه كان يأخذ على سيفه التسرُّع ، والحِدّة .. ولقد عبّر عن هذا حين اقترح على أبي بكر عزله إثر مقتل ((مالك بن نويرة)) ، فقال : ((إن في سيف خالد رَهقاً)) . ـ أي: خِفّة ، وحِدّة ، وتَسرّعاً ـ .. فأجابه الخليفة الصّدّيق :
((ما كنت لأشيم سيفاً سَلّه الله على الكافرين)) .
لم يقل عمر إن في خالد رهقاً .. بل جعل الرهق صفة لسيفه لا لشخصه ، وهي كلمات لا تنمُّ عن أدب أمير المؤمنين فحسب ، بل عن تقديره لخالد ـ أيضاً ـ ... وخالد رجل حرب من المهد إلى اللّحد .. فبيئته ، ونشأته ، وتربيته ، وحياته كلها ـ قبل الإسلام وبعده ـ كانت كلها وِعاء لفارس ، مُخاطر ، داهية ..
ثم إن إلحاح ماضيه قبل الإسلام ، والحروب التي خاضها ضد الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، والضربات التي أسقط بها سيفه ـ أيام الشرك ـ رؤوساً مؤمنة ، وجباهاً عابدة ، كل هذا كان له على ضميره ثِقَل مُبهِظ ، جعل سيفه توّاقاً إلى أن يُطوّح من دعامات الشرك أضعاف ما طوّح من حملة الإسلام ..
وإنكم لتذكرون العبارة التي أوردناها أوّل هذا الحديث والتي جاءت في سياق حديثه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال له :
((يا رسول الله .. استغفِر لي كلَّ ما أوضعت فيه من صدّ عن سبيل الله)) .
وعلى الرغم من إنباء الرسول إياه ، بأن الإسلام يجبُّ ما كان قبله ، فإنه ظل يتوسّل على الظفر بعهد من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يستغفر الله له فيما صَنَعت من قبلُ يداه ..
والسيف حين يكون في يد فارس خارق ؛ كخالد بن الوليد ، ثم يحرّك اليدَ القابضة عليه ضمير متوهّج بحرارة التطهّر والتعويض ، ومُفعم بولاء مطلق لدين تُحيط به المؤامرات والعداوات ، فإن من الصعب على هذا السيف أن يتخلى عن مبادئه الصارمة ، وحدّته الخاطفة ..
وهكذا رأينا سيف خالد يُسبب لصاحبه المتاعب .
فحين أرسله النبي عليه الصلاة والسلام بعد الفتح إلى بعض قبائل العرب القريبة من مكة ، وقال له :
((إني أبعثك داعياً ، لا مُقاتلاً)) .
غلبه سيفه على أمره ودفعَه إلى دور المُقاتل .. متخلّياً عن دور الداعي الذي أوصاه به الرسول صلى الله عليه وسلم مما جعله عليه الصلاة والسلام ينتفض جزعاً وألماً حين بلغه صنيع خالد ، وقام مستقبلاً القبلة ، رافعاً يديه ، ومعتذراً إلى الله بقوله :
((اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد)) .
ثم أرسل عليّاً فَودى لهم دماءهم وأموالهم .
وقيل إن خالداً اعتذر عن نفسه بأن عبد الله بن حُذافة السّهمي قال له : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمرك بقتالهم ؛ لامتناعهم عن الإسلام ..
كان خالد يحمل طاقة غير عادية .. وكان يستبدّ به توق عارم إلى هدم عالمه القديم كله .. ولو أننا نبصره وهو يهدم صنَم ((العُزّى)) ، الذي أرسله النبي صلى الله عليه وسلم لهدمِه .
لو أننا نبصره وهو يُدمدم بمعوله على هذه البناية الحجرية ، لأبصرنا رجلاً يبدو كأنه يقاتل جيشاً بأسره ، يُطوّح رؤوس أفراده ، ويبتر بالمنايا صفوفه .
فهو يضرب بيمينه وبشماله ، وبقدمه ، ويصيح في الشظايا المتناثرة ، والتراب المتساقط :
((يا عُزى كفرانك ، لا سُبحانك ؛ إني رأيت الله قد أهانك)) ..!!
ثم يحرقها ويشعل النار في ترابها ..!
كانت كل مظاهر الشرك وبقاياه في نظر خالد ـ كالعُزّى ـ لا مكان لها في العالم الجديد الذي وقف خالد تحت أعلامه .. ولا يعرف خالد أداةً لتصفيتها إلا سيفه ..
وإلا .. ((كفرانك ، لا سُبحانك .. إني قد رأيت الله قد أهانك))..!!
على أنّا إذ نتمنّى مع أمير المؤمنين عمر لو خلا سيف خالد من هذا الرَّهق ؛ فإننا سنظلّ نردّد مع أمير المؤمنين عمر ـ قوله :
((عجزت النساء أن يَلِدْن مثلَ خالد))..!!
لقد بكاه عمر يوم مات بُكاءً كثيراً ، وعلم الناس فيما بعد أنه لم يكن يبكي فقدَه فحسب ، بل ويبكي فرصة أضاعها الموت من عمر إذ كان يعتزم ردّ الإمارة إلى خالد بعد أن زال افتتان الناس به ، ومُحِّصت أسباب عزله ، لولا أن تداركه الموت وسارع خالد إلى لقاء ربّه .
نعم ، سارع البطل العظيم إلى مثواه في الجنّة ..
أما آن له أن يستريح ..؟؟ .. هو الذي لم تشهد الأرض عدوّاً للراحة مثله ..!!
أما آن لجسده المجهد أن ينام قليلاً ...؟؟ .. هو الذي كان يصفه أصحابه وأعداؤه بأنه :
((الرجل الذي لا ينام ، ولا يترك أحداً ينام))..؟؟
أمّا هو ، فلو خيّر لاختار أن يمدّ الله له في عمره مزيداً من الوقت يواصل فيه هدم البقايا المتعفّنة القديمة ، ويتابع عمله وجهاده في سبيل الله والإسلام ...
إن روحَ هذا الرجل ورَيحانه ليُوجدان دائماً وأبداً ، حيث تصهل الخيل ، وتلتمع الأسنّة ، وتخفق رايات التوحيد فوق الجيوش المسلمة .. وإنّه ليقول :
((ما ليلةٌ يُهدى إليّ فيها عَروس ، أو أُبشّر فيها بوليد ، بأحبّ إليّ من ليلة شديدة الجليد ، في سريّة من المهاجرين ، أصبِّح بهم المشركين)) ..
من أجل ذلك ، كانت مأساة حياته ـ في رأيه ـ أن يموت على فراشه ؛ وهو الذي قضى حياته كلها فوق ظهر جواده ، وتحت بريق سيفه ..
هو الذي غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقهر أصحاب الردّة ، وسوّى بالتراب عرشَي فارس والروم ، وقطع الأرض وثباً ، في العراق خطوة خطوة .. حتى فتحها للإسلام ـ وفي بلاد الشام خطوة خطوة ، حتى فتحها كلها للإسلام ...
أميراً ، يحمل شَظَف الجنديّ وتواضعه .. وجنديّاً ، يحمل مسؤولية الأمير وقدوته .
كانت مأساة حياة البطل أن يموت على فراشه ..!!
هنالك قال ودموعه تنثال من عينيه :
((لقد شهِدت كذا ، وكذا زحفاً ، وما في جسدي موضع إلا وفيه ضربة سيف ، أو طعنة رُمح ، أو رمية سهم ..
ثم هآنذا أموت على فراشي حتف أنفي ؛ كما يموت البعير ، فلا نامت أعين الجُبناء)) ..!!
كلمات لا يجيد النطق بها في مثل هذا الموطن ، إلا مثل هذا الرجل .
وحين كان يستقبل لحظات الرحيل ، شرع يُملي وصيَّته ..
أتدرون إلى من أوصى ..؟؟
إلى عمر بن الخطاب ذاته ..!!
أتدرون ماذا كانت تركتُه ..؟
فرسَه وسلاحه ..!!
ثم ماذا ..؟؟
لا شيء أبداً ، مما يقتني الناس ويمتلكون ..!!
ذلك أنه لم يكن يستحوذ عليه وهو حيّ سوى اقتناء النصر وامتلاك الظفر على أعداء الحقّ .. وما كان في متاع الدنيا جميعه ما يستحوذ على حرصه ..
شيء واحد ، كان يحرص عليه في شغف واستماتة .. تلك هي ((قلنسُوتُه)) .. سقطت منه يوم اليرموك ؛ فأضنى نفسه والناس في البحث عنها .. فلمّا عُوتِب في ذلك قال :
((إن فيها بعضاً من شعر ناصية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإني أتفاءل بها ، وأستنصر)) .
وأخيراً ، خرج جثمان البطل من داره محمولاً على أعناق أصحابه ورمَقَته أم البطل الراحل بعينين اختلط فيهما بريق العزم بغاشية الحزن فقالت تودّعه :
أنت خير من ألف ألف من القو
م إذا ما كَبَتْ وجوه الرجال
أشْجاعٌ ..؟ فأنت أشجع من لَيْــ
ــثٍ غَضنْفَر يذودُ عن أشبال
أجوادٌ ..؟ فأنت أجود من سَيــ
ـل غامر يسيلُ بين الجبال
وسمعها ((عمر)) فازداد قلبه خفقاً .. ودمعه دَفقاً .. وقال :
((صدَقَتْ .. والله، إن كان لكذلك)) .
وثوى البطل في مرقَدِهِ .. ووقف أصحابه في خشوع ، والدنيا من حولهم هاجعة ، خاشعة ، صامتة ..
لم يقطع الصمت المهيب سوى صهيل فرس جاءت ـ كما نتخيّلها ـ تركض بعد أن خلعت رَسَنها ، وقطعت شوارع المدينة وثباً وراء جثمان صاحبها ، يقودها عبيرهُ وأريجُه .
وإذا بلغت الجمع الصامت والقبر الرطب لوّحت برأسها ؛ كالراية ، وصَهيلها يصدح .. تماماً مثلما كانت تصنع والبطل فوق ظهرها ، يهدّ عروش فارس والروم ، ويشفي وساوس الوثنية والبغي ، ويزيح من طريق الإسلام كل قوى التقهقر والشرك ..
وراحت ـ وعيناها على القبر لا تزيغان تعلو برأسها وتهبط ، مُلوّحة لسيدها وبطلها ، مُؤدية له تحية الوداع ..!!
ثم وقفت ساكنة ـ ورأسها مرتفع .. وجبهتها عالية : ولكن من مآقيها تسيل دموع غِزار وكبار ..!!
لقد وقفها خالد مع سلاحه في سبيل الله .. ولكن ...هل سيقدر فارس على أن يمتطي صهوتها بعد خالد ..؟؟
وهل ستُذَلل ظهرها لأحد سواه ..؟؟
إيه يا بطل كل نصر ...
ويا فجر كل ليل ...
لقد كنت تعلو بروح جيشك على أهوال الزحف بقولك لجندك :
((عند الصباح يحمد القوم السُّرى)) ..
حتى ذهبت عنك مثَلاً ..
وها أنت ذا ، قد أتممت مَسراك ..
فَلِصباحك الحمد ، أبا سليمان ..!!
ولذكراك المجدُ ، والعِطر، والخُلد ، يا خالد ..!!
ودَعْنا ... نُردّد مع أمير المؤمنين عمر كلماتِه العِذاب الرّطاب التي ودّعك بها ورثاك :
رَحِمَ الله أبا سليمان
ما عند الله خيرٌ مما كان فيه
ولقد عاش حَميداً
وماتَ سعيداً
***
((لا ينام ، ولا يترك أحد ينام!!))
..........
إن أمره لعجب ... !!
هذا الفاتك بالمسلمين يوم أُحُد والفاتك بأعداء الإسلام بقيَّة الأيام ... !!
ألا فلنأت على قصته من البداية ..
ولكن أيّة بداية ..؟؟
إنه هو نفسه ، لا يكاد يعرف لحياته بدءاً إلا ذلك اليوم الذي صافح فيه الرسول مُبايعاً ... ولو استطاع لنحّى عن عمره وحياته كل ما سبق ذلك اليوم من سنين ، وأيام ...فلنبدأ معه إذاً من حيث يحب ...من تلك اللحظة الباهرة التي خشع فيها قلبه لله ، وتلقّت روحه فيها لمسة من يمين الرحمن ـ وكلتا يديه يمين ـ ؛ فتفجّرت شوقاً إلى دينه ، وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم وإلى استشهاد عظيم في سبيل الحق ّ ، ينضو عن كاهله أوزار مُناصرته الباطل في أيّامه الخاليات ...
لقد خلا ـ يوماً ـ إلى نفسه ، وأدار خواطره الرشيدة على الدين الجديد الذي تزداد راياته كل يوم تألقاً وارتفاعاً ، وتمنّى على الله علام الغيوب أن يمدَّ إليه من الهدى بسبب ... والتَمَعَت في فؤاده الذكي بشائر اليقين ، فقال :
((واللهِ لقد استقام المنْسِم .. وإنّ الرجل لرسول .. فحتّى متى ..؟؟ .. أذهبُ واللهِ ، فأُسلم)) ..
ولنصغِ إليه ـ رضي الله عنه ـ يحدثنا عن مسيره المبارك إلى رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ ، وعن رحلته من مكة إلى المدينة ؛ ليأخذ مكانه في قافلة المؤمنين :
((..وَودِدتُ لو أجد من أصاحب ، فلقيتُ عثمان بن طلحة ، فذكرتُ له الذي أريد ؛ فأسرع الإجابة ، وخرجنا جميعاً فأدْلجنا سَحَراً ...فلمَّا كنّا بالسهل إذا عمرو بن العاص ، فقال : مرحباً بالقوم ، قلنا : وَبك ...
قال : أين مسيركم ؟ فأخبرناه ، وأخبرنا ـ أيضاً ـ أنّه يريد النبي صلى الله عليه وسلم ؛ ليُسلم .
فاصطحبنا حتى قدِمنا المدينة أول يوم من صفر سنة ثمان .. فلمّا اطَّلعتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمت عليه بالنبوَّة فردّ عليّ السلام بوجه طلق ، فأسلمتُ وشهدت شهادة الحق .. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم :
"قد كنت أرى لك عقلاً رجوت ألا يُسلمك إلا إلى خير" ..
وبايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلت : استغفر لي كل ما أوضَعتُ فيه من صدٍّ عن سبيل الله ..
فقال : إنّ الإسلام يجبُّ ما كان قبله ..
قلت: يا رسول الله على ذلك ..
فقال : اللّهمّ اغفر لخالد بن الوليد كل ما أوضع فيه مِن صدٍّ عن سبيلك ..
وتقدّم عمرو بن العاص ، وعثمان بن طلحة ، فأسلما وبايعا رسول الله)) ..
أرأيتم قوله للرسول صلى الله عليه وسلم : ((استغفر لي كل ما أوضَعتُ فيه من صدٍّ عن سبيل الله)) ..؟؟
إنّ الذي يضع على هذه العبارة بصره وبَصيرته ، سيهتدي إلى فهم صحيح لتلك المواقف التي تشبه الألغاز في حياة سيف الله وبطل الإسلام ...
وعندما نبلغ تلك المواقف في قصة حياته ستكون هذه العبارة دليلنا لفهمها وتفسيرها ... أما الآن ، فمع ((خالد)) الذي أسلم لتوّه ؛ لنرى فارس قريش وصاحب أعنّة الخيل فيها ، لنرى داهية العرب كافة في دنيا الكرِّ والفرِّ ، يعطي لآلهة آبائه وأمجاد قومه ظهره ، ويستقبل مع الرسول والمسلمين عالماً جديداً ، كتب الله له أن ينهض تحت راية محمد صلى الله عليه وسلم وكلمة التوحيد ...
مع خالد ـ إذاً ـ وقد أسلم ، لنرى من أمره عجباً ...!!!
أتذكرون نبأ الثلاثة الشهداء أبطال معركة مؤتة ..؟؟
لقد كانوا : زيد بن حارثة ، وجعفر بن أبي طالب ، وعبد الله بن رواحة ـ رضي الله عنهم جميعاً ـ ...
لقد كانوا أبطال غزوة ((مُؤتَة)) بأرض الشام .. تلك الغزوة التي حشد لها الروم مئتي ألف مقاتل ، والتي أبلى المسلمون فيها بلاء منقطع النظير ...
وتذكرون العبارة الجليلة الآسية التي نعى بها الرسول صلى الله عليه وسلم قادة المعركة الثلاثة حين قال :
((أخذ الراية (زيد بن حارثة) فقاتل بها ، حتى قُتل شهيداً .. ثم أخذها (جعفر) فقاتل بها ، حتى قُتل شهيداً .. ثم أخذها (عبد الله بن رواحَة) فقاتل بها ، حتى قُتل شهيداً)) .
كان لحديث رسول الله هذا بقيَّة ، ادَّخرناها لمكانها على هذه الصفحات ..
هذه البقيّة هي :
((ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله ؛ ففتح الله على يديه)) .
فمن كان هذا البطل ..؟؟
لقد كان ((خالد بن الوليد)) .. الذي سارع إلى غزوة ((مؤتة)) جندياً عاديّاً تحت قيادة القوّاد الثلاثة الذين جعلهم الرسول صلى الله عليه وسلم على الجيش : زيد ، وجعفر ، وابن رواحة ـ رضي الله عنهم جميعاً ـ والذين استشهدوا بنفس الترتيب على أرض المعركة الضاربة ...
وبعد سقوط آخر القوّاد شهيداً ، سارع إلى اللواء ((ثابت بن أقرم)) فحمله بيمينه ورفعه عالياً وسط الجيش المسلم حتى لا تُبعثر الفوضى صفوفه ..
ولم يكد((ثابت)) يحمل الراية حتى توجّه بها مسرعاً إلى خالد بن الوليد ، قائلاً له : ((خذ اللواء يا أبا سُليمان)) ..ولم يجد خالد من حقّه ، وهو حديث العهد بالإسلام أن يقود قوماً فيهم الأنصار والمهاجرون الذين سبقوه بالإسلام .
أدب ، وتواضع ، وعرفان ، ومزايا ، هو لها أهلٌ وبها جدير !!
هنالك قال مجيباً ((ثابت بن أقرم)) :
((لا ...لا آخذ اللواء ، أنت أحقُّ به .. لك سنٌّ وقد شهدتَ بدراً)) .. وأجابه ثابت :
((خذه ، فأنت أدرى بالقتال منّي ، ووالله ، ما أخذته إلا لك)) ..ثم نادى في المسلمين : أترضَوْنَ إمرَةَ خالد ..؟
قالوا : نعم ..
واعتلى العبقري جواده ودفع الراية بيمينه إلى الأمام كأنما يقرع بها أبواباً مغلقة آن لها أن تُفتح على طريق طويل لاحب سيقطعه البطل وثباً..وثباً .. في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وبعد مماته ، حتى تبلغ المقادير بعبقريته الخارقة أمراً كان مقدوراً ...وَلي خالد إمرة الجيش ، بعد أن كان مصير المعركة قد تحقق ؛ فضحايا المسلمين كثيرون ، وجناحهم مهيض .. وجيش الروم في كثرته الساحقة كاسح، ظافر ، مُدمدم .. ولم يكن بوسع أيّة كفاية حربية أن تغيّر من المصير شيئاً ؛ فتجعل المغلوب غالباً ، والغالب مغلوباً ...
وكان العمل الوحيد الذي ينتظر عبقرياً لكي ينجزه ، هو وَقف الخسائر في جيش الإسلام ، والخروج ببقيته سالمة ؛ أي : الانسحاب الوقائي الذي يحول دن هلاك بقية القوة المقاتلة على أرض المعركة .
بيد أنَّ انسحاباً كهذا كان من الاستحالة بمكان ..
ولكن إذا كان صحيحاً أنّه (( لا مستحيل على القلب الشجاع )) فمن أشجع من خالد قلباً ، ومن أروع عبقريةً وأنفذ بصيرة ..؟؟!
هنالك تقدّم سيف الله يرمق أرض القتال الواسعة بعينين ؛ كعيني الصقر ، ويديرالخطط في بديهته بسرعة الضوء .. ويقسم جيشه ـ والقتال دائر ـ إلى مجموعات ، ثم يكل إلى كل مجموعة بمهامها ... وراح يستعمل فنّه المعجز ودهائه البليغ حتى فتح في صفوف جيش الروم ثغرة فسيحة واسعة ، خرج منها جيش المسلمين كله سليماً معافى بعد أن نجا بسبب من عبقرية بطل الإسلام من كارثة ماحقة ما كان لها من زوال ..!!
وفي هذه المعركة أنعم الرسول صلى الله عليه وسلم على خالد بهذا اللقب العظيم .
وتنكث قريش عهدها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فيتحرك المسلمون بقيادته لفتح مكة .. وعلى الجناح الأيمن من الجيش ، يجعل الرسول خالد بن الوليد أميراً ...
ويدخل ((خالد)) مكة واحداً قادة من الجيش المسلم والأمة المسلمة ، بعد أن شهدته سهولها وجبالها قائداً من قوّاد جيش الوثنية والشرك زمناً طويلاً ..
وتخطر له ذكريات الطفولة ، حيث مراتعها الحلوة .. وذكريات الشباب ، حيث ملاهيه الصاخبة ... ثم تستجيشه ذكريات الأيام الطويلة التي ضاع فيها عمره قرباناً خاسراً لأصنام عاجزة كاسدة ... وقبل أن يعضّ الندم فؤاده ينتفض تحت روعة المشهد وجلاله ...
مشهد النور الزاحف على مكة .. مشهد المستضعفين الذين لا تزال جسومهم تحمل آثار العذاب والهول ، يعودون إلى البلد الذي أخرجوا منه بَغْياً وعَدْواً ، يعودون إليه على صهوات جيادهم الصاهلة ، وتحت رايات الإسلام الخافقة .. وقد تحول همسهم الذي كانوا يتناجون به في دار الأرقم بالأمس ـ إلى تكبيرات صادعة رائعة ترجّ مكة رجّاً ، وتهليلات باهرة ظافرة ، يبدو الكون معها ؛ وكأنه كله في عيد ..!!
كيف تمت المعجزة ..؟؟
أي تفسير لهذا الذي حدث ؟
لا شيء ... لا شيء إلا هذه الآية التي يردّدها الزاحفون الظافرون وسط تهليلاتهم وتكبيراتهم حين ينظر بعضهم إلى بعض فرحين قائلين :
(( وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ )) :الروم: 6
ويرفع خالد رأسه إلى أعلى ، ويرمق في إجلال وغبطة وحُبور رايات الإسلام تملأ الأفق .. فيقول لنفسه :
أجل .. إنه وعد الله ، ولا يُخلف الله وعده ..!!
ثم يحني رأسه شاكراً نعمة ربه الذي هداه للإسلام وجعله في يوم الفتح العظيم هذا ، واحداً من الذين يحملون الإسلام إلى مكة .. وليس من الذين سيحملهم الفتح على الإسلام ..
ويظل خالد إلى جانب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وضعاً كفاياته المتفوقة في خدمة الدين الذي آمن به من كل يقينه ، ونذر له كل حياته .
وبعد أن يلحق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى ، ويحمل أبو بكر الصدّيق مسؤولية الخلافة ، وتهبّ أعاصير الردّة غادرة ماكرة ، مطوقّة الدين الجديد بزئيرها المصمّ وانتفاضها المُدمدم .. يضع أبو بكر عينه لأول وهلة على بطل الموقف ورجل الساعة .. أبي سليمان ، سيف الله ، خالد بن الوليد ..!!
وصحيح أن أبا بكر لم يبدأ معارك المرتدين إلا بجيش قاده هو بنفسه ، ولكن ذلك لا يمنع أنّه ادّخر خالداً ليوم الفصل ، وأنّ خالداً في المعركة الفاصلة التي كانت أخطر معارك الردّة جميعاً ، كان رجلها الفذ وبطلها الملهم ...
عندما بدأت جموع المرتدين تتهيأ لإنجاز مؤامراتها الضخمة ، صمّم الخليفة العظيم أبو بكر على أن يقود جيش المسلمين بنفسه ، ووقف زعماء الصحابة يبذلون محاولات يائسة لصدّه عن هذا العزم ، ولكنه ازداد تصميماً .. ولعله بهذا أراد أن يعطي القضية التي دعا الناس لخوض الحرب من أجلها أهمية وقداسة ، لا يؤكدها في رأيه إلا اشتراكه الفعلي في المعارك الضارية التي ستدور رحاها بين قوى الإيمان ، وبين جيوش الردة والضلال ، وإلا قيادته المباشرة لبعض أو لكل القوات المُسلمة ..
ولقد كانت انتفاضات الردة بالغة الخطورة ، على الرغم من أنها بدأت وكأنها تمرّد عارض ..لقد وجد فيها جميع الموتورين من الإسلام والمتربصين به فرصتهم النادرة ، سواء بين قبائل العرب أن على الحدود ، حيث يجثم سلطان الروم والفرس ، هذا السلطان الذي بدأ يحسُّ خطر الإسلام الأكبر عليه ، فراح يدفع الفتنة في طريقه من وراء ستار ..!!
ونشبت نيران الفتنة في قبائل : أسد ، وغطفان ، وعبس ،وطيئ ، وذبيان ...
ثم في قبائل : بني عامر ، وهوازن ، وسليم ، وبني تميم ..
ولم تكد المناوشات تبدأ حتى استحالت إلى جيوش جرارة قوامها عشرات الألوف من المقاتلين ...
واستجاب للمؤامرة الرهيبة أهل البحرين ، وعُمان ، والمهرة ، وواجه الإسلام أخطر محنة ، واشتعلت الأرض من حول المسلمين ناراً ... ولكن ، كان هناك أبو بكر ..!!
عبَّأ أبو بكر المسلمين وقادهم إلى حيث كانت قبائل بني عبس ، وبني مرة ، وذبيان قد خرجوا في جيش لَجِب ..
ودار القتال ، وتطاول ، ثم كُتب للمسلمين نصر مؤزّر وعظيم ...
ولم يكد الجيش المنتصر يستقر بالمدينة حتى ندبه الخليفة للمعركة التالية ... وكانت أنباء المرتدين وتجمعاتهم تزداد كل ساعة خطورة .. وخرج أبو بكر على رأس هذا الجيش الثاني ، ولكنّ كبار الصحابة يفرغ صبرهم ، ويجمعون على بقاء الخليفة بالمدينة ، ويعترض الإمام ((علي)) طريق أبي بكر ويأخذ بزمام راحلته التي كان يركبها وهو ماض أمتم جيشه الزاحف ، فيقول له :
((إلى أين يا خليفة رسول الله ..؟؟
إني أقول لك ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسم يوم أُحُد : لُمَّ سيفك يا أبا بكر ، ولا تَفجَعنا بنفسك ..)) .
وأمام إجماع مُصمم من المسلمين ، رضي الخليفة أن يبقى بالمدينة وقسّم الجيش إلى إحدى عشرة مجموعة .. رسم لكل مجموعة دورها ...
وعلى مجموعة ضخمة من تلك المجموعات كان خالد بن الوليد أميراً .. ولمّا عقد الخليفة لكل أمير لواءه ، اتجه صوب خالد وقال يخاطبه:
((سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : نِعم عبدُ الله وأخو العشيرة ، خالد بن الوليد ، سيف من سيوف الله سلّه الله على الكُفار والمنافقين)) ..
ومضى خالد إلى سبيله ينتقل بجيشه من معركة إلى معركة ، ومن نصر إلى نصر حتى كانت المعركة الفاصلة ...
فهناك باليمامة كان بنو حنيفة ومن انحاز إليهم من القبائل ، قد جيشوا أخطر جيوش الردة قاطبة ، يقوده ((مسليمة الكذّاب)) ...
وكانت بعض القوات المسلمة قد جرّبت حظّها مع جيش مسيلمة ، فلم تبلغ منه منالاً .. وجاء أمر الخليفة إلى قائده ((المظفَّر)) أن سرْ إلى بني حنيفة .. وسار خالد ..
ولم يكد ((مسيلمة)) يعلم أن ابن الوليد في الطريق إليه حتى أعاد تنظيم جيشه وجعل منه خطراً حقيقاً ، وخصماً رهيباً ..
والتقى الجيشان ...
وحين تُطالع في كتب السيرة والتاريخ سَيرَ تلك المعركة الهائلة ، تأخذك رهبة مُضنية ، إذ تجد نفسك أمام معركة أشبه في ضراوتها وجبروتها معارك حروبنا الحديثة ، وإن تخلّفت عنها في نوع السلاح وظروف القتال ..
ونزل خالد بجيشه على كثيب مُشرف على اليمامة ، وأقبل مسيلمة في خُيلائه وبغيه ، صفوف جيشه من الكثرة كأنها لا تؤذن بانتهاء ..!!
وسلم خالد الألوية والرايات لقادة جيشه ، والتَحم الجيشان ودار قتال رهيب .. ثمّ رهيب .. وسقط شهداء المسلمين تباعاً ؛ كزهور حديقة طوَّحت بها عاصفة عنيدة ..!!
وأبصر خالد رجحان كفّة الأعداء ، فاعتلى بجواده ربوة قريبة وألقى على المعركة نظرة سريعة ، ذكية وعميقة .. ومن فوره أدرك نقاط الضعف في جيشه وأحصاها ..
رأى الشعور بالمسؤولية قد وهن تحت وقع المفاجأة التي دهمهم بها جيش مسيلمة ، فقرر في نفس اللحظة أن يشدّ في أفئدة المسلمين جميعاً زناد المسؤولية إلى أقصاه ..فمضى ينادي إليه فيالق جيشه وأجنحته ، وأعاد تنسيق مواقعه على أرض المعركة ، ثم صاح بصوته المنتصر :
((امتازوا؛ لنرى اليوم بلاء كل حيّ)) .
وامتازوا جميعاً ..
مضى المهاجرون تحت رايتهم ، والأنصار تحت رايتهم ، ((وكلُّ بني أب على رايتهم)).
وهكذا صار واضحاً تماماً ، من أين تجيء الهزيمة حين تجيء؟ ..واشتعلت الأنفس حماسة ...واتّقدت مضاء ، وامتلأت عزماً وروعة ..
وخالد بين الحين والحين ، يرسل تكبيرة أو تهليلة أو صيحة يلقي بها أمراً ، فتتحول سيوف جيشه إلى مقادير لا رادّ لأمرها ، ولا معوِّق لغاياتها ..
وفي دقائق معدودة تحوّل اتجاه المعركة وراح جنود مسيلمة يتساقطون بالعشرات ، فالمئات ، فالألوف ؛ كذباب حنقت أنفاس الحياة فيه نفثاتُ مُطَهر صاعق مُبيد ..!!
لقد نقل خالد حماسته ؛ كالكهرباء إلى جنوده ، وحلت روحه في جيشه جميعاً ..وتلك كانت إحدى خصال عبقريته الباهرة ..
وهكذا سارت أخطر معارك الردة وأعنف حروبها ، وقُتِل مسيلمة .. وملأت جثث رجاله وجيشه أرض القتال ، وطويت تحت التراب إلى الأبد راية الدّعيّ الكذّاب ..
وفي المدينة صلى الخليفة لربه الكبير المتعال صلاة الشكر ؛ إذ منحهم هذا النصر ، وهذا البطل ... وكان أبو بكر قد أدرك بفطنته وبصيرته ما لقوى الشر الجاثمة وراء حدود بلاده من دور خطير في تهديد مصير الإسلام وأهله ..الفرس في العراق ..والروم في بلاد الشام ...
إمبراطوريتان خَرِعَتان تتشبثان بخيوط واهنة من حظوظهما الغاربة ، وتسومان الناس في العراق وفي الشام سوء العذاب ، بل وتسخرهم ـ وأكثرهم عَرب ـ لقتال المسلمين العرب الذين يحملون راية الدين الجديد ، ويضربون بمعاوله قلاع العالم القديم كله ، ويجتثون عفَنه وفساده ..!
هنالك ، أرسل الخليفة العظيم المبارك توجيهاته إلى خالد أن يمضي بجيشه صوب العراق .. ويمضي البطل إلى العراق ، وليت هذه الصفحات كانت تتسع لِتَتَبُّع مواكب نصره ؛ إذاً لرأينا من أمرها عجباً .
لقد استهلَّ عمله في العراق بكُتب أرسلها إلى جميع وُلاة كسرى ونوابه على ألوية العراق ومدائنه ...
((بسم الله الرحمن الرحيم
من خالد بن الوليد .. إلى مرازبة فارس ... سلام على من اتَّبع الهُدى
أما بعد ، فالحمد لله الذي فضَّ خدمَكم ، وسَلب مُلككم ، ووهَّن كيدكم
مَن صلّى صلاتنا ، واستقبل قبلتنا ، وأكل ذبيحنا فذلكم المسلم ، له ما لنا وعليه ما علينا ، إذا جاءكم كتابي فابعثوا إليَّ بالرُّهن واعتقدوا منّي الذمَّة ...
وإلا ، فوالذي لا إله غيره ، لأبعثنَّ إليكم قوماً يحبون الموت كما تحبون الحياة)) .!!!
وجاءته طلائعه التي بثّها في كل مكان بأنباء الزّحوف الكثيرة التي يُعدها له قوّاد الفرس في العراق ، فلم يضيّع وقته ، وراح يقذف بجنوده على الباطل لِيدمغَه .. وطويت له الأرض طيَّاً عجيباً .
في الأُبُلَّة ، إلى السدير ، فالنجف ، إلى الحيرة ، فالأنبار ، فالكاظمية ، مواكب نصر تتبعها مواكب .. وفي كل مكان تُهلُّ به رياحه البُشريات ترتفع للإسلام راية يأوي إلى فيّها الضعفاء والمستعبدون .
أجل ، الضعفاء والمستعبدون من أهل البلد الذين كان الفرس يستعمرونهم ، ويسومونهم العذاب ..
وكم كان رائعاً من خالد أن بدأ زحفه بأمر أصدره إلى جميع قواته :
((لا تتعرضوا للفلاحين بسوء ، دعوهم في شغلهم آمنين ، إلا أن يخرج بعضهم لقتالكم ، فآنئذ قاتلوا المقاتلين)) .
وسار بجيشه الظافر ؛ كالسكين في الزبد الطريّ حتى وقف على تخوم الشام ...وهناك دوّت أصوات المؤذنين ، وتكبيرات الفاتحين .
تُرى ، هل سمع الروم في الشام ..؟؟
وهل تبيّنوا في هذه التكبيرات نعي أيامهم ، وعالمهم ..؟؟
أجل ، سمعوا وفزعوا .. وقرّروا أن يخوضوا في جنون معركة اليأس والضياع ..!
كان النصر الذي أحرزه الإسلام على الفرس في العراق بشيراً مِثله على الروم في الشام .. فجنّد الصّدّيق أبو بكر جيوشاً عديدة ، واختار لإمارتها نفراً من القادة المهرة ((أبو عبيدة بن الجراح)) ...و((عمرو بن العاص)) ..و((يزيد بن أبي سفيان)) ، ثم ((معاوية بن أبي سفيان)) .. وعندما نمت أخبار هذه الجيوش إلى إمبراطور الروم نصح وزراءه وقواده بمصالحة المسلمين ، وعدم الدخول معهم في حرب خاسرة ..
بيد أن وزراءه وقواده أصرّوا على القتال وقالوا :
((والله لنشغلنَّ أبا بكر عن أن يُوردَ خيله إلى أرضنا)) .. وأعدوا للقتال جيشاً بلغ قوامه مئتي ألف مقاتل ، وأربعين ألفاً .
وأرسل قادة المسلمين إلى الخليفة بالصورة الرهيبة للموقف ، فقال أبو بكر :
((والله لأشفِيَنَّ وَساوسهم بخالد)).!!!
وتلقّى ((تِرياق الوساوس)) .. وساوس التمرّد ، والعدوان ، والشرك ، تلقّى أمر الخليفة بالزحف إلى الشام ؛ ليكون أميراً على جيوش الإسلام التي سبقته إليها ... وما أسرع ما امتثل خالد وأطاع ، فترك على العراق ((المُثنّى بن حارثة)) وسار مع قواته التي اختارها حتى وصل مواقع المسلمين بأرض الشام ، وأنجز بعبقريته الباهرة تنظيم الجيش المسلم وتنسيق مواقعه في وقت وجيز ، وبين يدي المعركة واللقاء ، وقف في المقاتلين خطيباً ، فقال ـ بعد أن حمد ربّه وأثنى عليه ـ :
((إن هذا يوم من أيام الله ، لا ينبغي فيه الفخر ولا البغي ... أخلصوا جهادكم ، وأريدوا الله بعملكم ، وتعالوا نتعاور الإمارة ـ أي: نتبادلها ـ فيكون أحدنا اليوم أميراً ، والآخر غداً ، والآخر بعد غد ، حتى يتأمّر كلكم))..
هذا يوم من أيام الله .. ما أروعها من بداية ...!!
لا ينبغي فيه الفخر ولا البغي ... وهذه أكثر روعة وأوفى ورعاً!!
ولم تنقص القائد العظيم الفِطنة المفعمة بالإيثار ، فعلى الرغم من أنّ الخليفة وضعه على رأس الجيش بكل أمرائه ، فإنه لم يشأ أن يكون عوناً للشيطان على أنفس أصحابه ، فتنازل لهم عن حقّه الدائم في الإمارة وجعلها دولةً بينهم جميعاً ...
اليوم أمير ... وغداً أمير ثان .. وبعد غد أمير آخر .. وهكذا ..
كان جيش الروم بأعداده وبعتاده ، شيئاً بالغ الرهبة .. لقد أدرك قواد الروم أن الزمن في صالح المسلمين ، وأن تطاوُل القتال وتكاثر المعارك يهيئان لهم النصر دائماً ؛ من أجل ذلك قرروا أن يحشدوا كل قواهم في معركة واحدة يُجهزون خلالها على العرب ؛ حيث لا يبقى لهم بعدها وجود ، وما من شك في أن المسلمين أحسّوا يوم ذاك من الرهبة والخطر ما ملأ نفوسهم المقدامة قلقاً وخوفاً ..
ولكنّ إيمانهم كان يَخِفّ لخدمتهم في مثل تلك الظلمات الحالكات ؛ فإذا فجرُ الأمل والنصر يغمرهم بسناه ..!!
ومهما يكن بأس الروم وجيوشهم ، فقد قال أبو بكر ـ وهو بالرجال جدُّ خبير ـ :
((خالدٌ لها)) .!!!
وقال : ((والله، لأشفينّ وساوسهم بخالد)).
فليأت الروم بكل هولهم ، فمع المسلمين الترياق ..!!
عبّأ ابن الوليد جيشه ، وقسمه إلى فيالق ، ووضع للهجوم والدفاع خُطة جديدة تتناسب مع طريقة الروم بعد أن خبر وسائل إخوانهم الفرس في العراق .. ورسم للمعركة كل مقاديرها .. ومن العجب أن المعركة دارت كما رسم خالد وتوقّع ، خطوة خطوة ، وحركة حركة ، حتى ليبدو وكأنه لو تنبأ بعدد ضربات السيوف في المعركة ، لما أخطأ التقدير والحساب ..!!
كل مناورة توقعها من الروم صنعوها ..
كل انسحاب تنبأ به فعلوه .. وقبل أن يخوض القتال كان يشغل باله ـ قليلاً ـ احتمال قيام بعض جنود جيشه بالفرار ، ولا سيما أولئك الذين هم حديثو العهد بالإسلام ، بعد أن رأى ما ألقاه منظر جيش الروم من رهبة وجزع ..
وكان خالد يتمثّل عبقرية النصر في شيء واحد ، هو ((الثبات)) .. وكان يرى أن حركة هروب يقوم بها اثنان أو ثلاثة ، يمكن أن تشيع في الجيش من الهلع والتمزّق ما لا يقدرعليه جيش العدوّ بأسه ..
من أجل هذا ، كان صارماً ـ أي صارم ـ تجاه الذي يلقي سلاحه ويولي هارباً .. وفي تلك الموقعة بالذات ((موقعة اليرموك)) ، وبعد أن أخذ جيشه مواقعه ، دعا نساء المسلمين ، ولأول مرة سلّمهن السيوف ، وأمرهن بالوقوف وراء صفوف المسلمين من كل جانب ، وقال لهن :
((من يُولي هارباً ؛ فاقتُلنه))... وكانت لفتة بارعة أدت مهمتها على أحسن وجه ..!!
وقُبيل بدء القتال طلب قائد الروم أن يبرز إليه خالد ؛ ليقول له بضع كلمات ..وبرز إليه خالد ؛حيث تواجها فوق جواديهما في الفراغ الفاصل بين الجيشين ..وقال ((ماهان)) قائد الروم يخاطب خالداً :
((قد علمنا أنه لم يخرجكم من بلادكم إلا الجهد والجوع .. فإن شئتم ، أعطيت كل واحد منكم عشرة دنانير ، وكسوة وطعاماً ، وترجعون إلى بلادكم ، وفي العام القادم أبعث إليكم بمثلها)) .!!
وضغط خالد الرجل والبطل على أسنانه ، وأدرك ما في كلمات قائد الروم من سوء الأدب .. وقرر أن يردّ عليه بجواب مناسب ، فقال له :
((إنه لم يخرجنا من بلادنا الجوع كما ذكرت ؛ ولكننا قوم نشرب الدماء ، وقد علِمنا أنه لا دم أشهى ولا أطيب من دم الروم ؛ فجئنا لذلك))..!!!
ولوى البطل زمام جواده عائداً إلى صفوف جيشه ، ورفع اللواء عالياً مُؤذناً بالقتال .. ((الله أكبر)) .
((هُبِّي رياح الجنة))..
كان جيشه يندفع ؛ كالقذيفة المصبوبة .. ودار قتال ليس لضراوته نظير ..
وأقبل الروم في فيالق ؛ كالجبال ..وبدا لهم من المسلمين ما لم يكونوا يحتسبون .. ورسم المسلمون صوراً تُبهر الألباب من فدائيتهم وثباتهم ..
فهذا أحدهم يقترب من أبي عبيدة بن الجرّاح والقتال دائر ، ويقول : ((إني قد عزمت على الشهادة ، فهل لك من حاجة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبلغها له حين ألقاه))؟؟
فيجيب أبو عبيدة :
((نعم .. قل له : يا رسول الله إنّا قد وجدنا ما وَعدنا ربنا حقّاً)).
ويندفع الرجل ، كالسهم المقذوف ... يندفع وسط الهول مشتاقاً إلى مصرعه ومضجعه ... يَضرب بسيفه ، ويُضرب بآلاف السيوف حتى يرتفع شهيداً ...!!
وهذا ((عكرمة بن أبي جهل)) .. أجل ابن أبي جهل ...!!
ينادي في المسلمين حين ثقلت وطأة الروم عليهم قائلاً :
((لطالما قاتلتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يهديني الله إلى الإسلام ، أَفأَفِرُّ من أعداء الله اليوم ))؟؟
ثم يصيح : ((من يُبايع على الموت))... فبايعه على الموت كوكبة من المسلمين ، ثم ينطلقون معاً إلى قلب المعركة لا باحثين عن النصر ، بل عن الشهادة .. ويتقبّل الله بيعهم وبَيعَتهم ؛ فيستشهدون ..!!
وهؤلاء آخرون أصيبوا بجراح أليمة ، وجيء لهم بماء يبللون به أفواههم ، فلمّا قُدّم الماء إلى أولهم ، أشار للساقي أن أعطِ أخي الذي بجواري ؛ فجرحه أخطر ، وظمؤه أشدّ .. فلمّا قدّم الماء إليه ، أشار بدوره لجاره ، فلمّا انتقل إليه أشار بدوره لجاره .. وهكذا .. حتى جادت أرواح أكثرهم ظامئة .. ولكن أنضر ما تكون تفانياً وإيثاراً ..!!
أجل .. لقد كانت معركة ((اليرموك)) مجالاً لفدائية يعزّ نظيرها .
ومن بين لوحات الفداء الباهرة التي رسمتها عزمات مُقدرة ، تلك اللوحة الفذة ... لوحة تحمل صورة خالد بن الوليد على رأس مئة لا غير من جنده ، ينقضّون على ميسرة الروم ، وعددها أربعون ألف جندي ، وخالد يصيح في المئة الذين معه :
((والذي نفسي بيده ، ما بقي مع الروم من الصبر والجلد إلا ما رأيتم ، وإني لأرجو أن يمنحكم الله أكتافهم)) .
مئة .. يخوضون في أربعين ألفاً .. ثم ينتصرون ..!!
ولكن أيّ عجب؟؟
أليس مِلء قلوبهم إيمان بالله العليّ الكبير ...؟؟
وإيمان برسوله الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم ؟؟
وإيمان بقضية ، هي أكثر قضايا الحياة برّاً ، وهُدى ، ونُبلاً ؟!
وأليس خليفتهم الصّدّيق ـ رضي الله عنه ـ ، هذا الذي ترتفع راياته فوق الدنيا ، بينما هو في المدينة ـ العاصمة الجديدة للعالم الجديد ـ يحلِبُ بيده شِياهَ الأيامى ، ويعجن بيديه خبز اليتامى ...؟؟
وأليس قائدهم ((خالد بن الوليد)) ترياق وساوس التجبر ، والصّلف ، والبغي ، والعدوان ، وسيف الله المسلول على قوى التخلّف ، والتعفّن ، والشِّرك؟؟
أليس ذلك ، كذلك ..؟
إذاً هُبّي رياح النصر ... هُبّي قوية عزيزة ، ظافرة ، قاهرة .
لقد بهرت عبقرية خالد قواد الروم وأمراء جيشهم ؛ مما حمل أحدهم ، واسمه ((جرجه)) على أن يدعوا خالداً للبروز إليه في إحدى فترات الراحة بين القتال .. وحين يلتقيان ، يوجه القائد الروماني حديثه إلى خالد قائلاً :
((يا خالد .. اصدقني ، ولا تكذبني فإنّ الحرّ لا يكذب ..
هل أنزل الله على نبيّكم سيفاً من السماء فأعطاك إياه ، فلا تسلّه على أحد إلا هزمته))؟؟
قال خالد : (( لا... )) .
قال الرجل : ((فبِمَ سُمّيت سيف الله))؟
قال خالد : ((إن الله بعث فينا رسوله صلى الله عليه وسلم ، فمنّا من صدّقه ومنّا من كذّب ... وكنت فيمن كذّب حتى أخذ الله قلوبنا إلى الإسلام ، وهدانا برسوله صلى الله عليه وسلم فبايعناه ... فدعا لي الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقال لي : أنت سيف من سيوف الله ، فهكذا سُمّيت .. سيف الله)) .
قال القائد الروماني : ((وإلام تَدعون)) ..؟
قال خالد : ((إلى توحيد الله ، وإلى الإسلام)) .
قال : ((هل لمن يدخل في الإسلام اليوم مثل ما لكم في المثوبة والأجر))؟
قال خالد : ((نعم ، وأفضل..)) .
قال الرجل : ((كيف ، وقد سبقتموه)) ..؟؟
قال خالد : ((لقد عشنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورأينا آياته ومعجزاته ، وحُقَّ لمن رأى ما رأينا ، وسمع ما سمعنا أن يُسلم في يُسر ..
أمّا أنتم يا مَن لم تَروه ولم تسمعوه ، ثم آمنتم بالغيب ؛ فإن أجركم أجزل وأكبر إذا صَدَقتُم الله سرائركم ونواياكم)) .
وصاح القائد الروماني ، وقد دفع جواده إلى ناحية خالد ، ووقف بجواره :
((علّمني الإسلام يا خالد)) .!!!
وأسلم ... وصلّى لله ركعتين ... لم يُصلّ سواهما ؛ فقد استأنف الجيشان القتال .. وقاتل ((جرجه الروماني)) في صفوف المسلمين مستميتاً في طلب الشهادة حتى نالها وظفر بها ..!!
وبعد فها نحن أولاء نوجه العظمة الإنسانية في مشهد من أبهى مشاهدها .. إذ كان خالد يقود جيش المسلمين في هذه المعركة الضارية ، ويستلُ النصر من بين أنياب الروم استلالاً فذّاً ، بقدر ما هو مُضنٍ ورهيب ، وإذا به يفاجأ بالبريد القادم من المدينة يحمل كتاب الخليفة الجديد ((أمير المؤمنين عمر بن الخطاب)) ..وفيه تحية الفاروق للجيش المسلم ، ونَعْيُه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصّدّيق ، ثم أمره بتنحية خالد عن القيادة ، وتولية ((أبي عبيدة بن الجرّاح)) مكانه ..
قرأ خالد الكتاب ، وهمهم بابتهالات الترحّم على أبي بكر والتوفيق لعمر .. ثم طلب من حامل الكتاب ألا يبوح لأحد بما فيه والزَمَهُ مكاناً أمره ألا يغادره ، وألا يتصل بأحد ..
استأنف قيادته للمعركة مُخفياً موت أبي بكر وأوامر عمر ـ رضي الله عنهما ـ حتى يتحقق النصر الذي بات وشيكاً وقريباً ..
ودقّت ساعة الظّفر ، واندحر الروم .. وتقدّم البطل من أبي عبيدة مؤدياً إليه تحية الجندي لقائده .. وظنّها أبو عبيدة في أول الأمر دعابة من دعابات القائد الذي حقق نصراً لم يكن في الحسبان ... بيد أنه ما فتِئ أن رآها حقيقة وجدّاً ، فقبّل خالداً بين عينيه ، وراح يُطري عظمة نفسه ، وسجاياه ..
وثمّة رواية تاريخية أخرى ، تقول : إن الكتاب أرسل من أمير المؤمنين عمر إلى أبي عبيدة ، وكتم أبو عبيدة النبأ عن خالد حتى انتهت المعركة ...
وسواء كان هذا الأمر أو ذاك ، فإن مَسلَك خالد في كلتا الحالتين هو الذي يعنينا .. ولقد كان مسلكاً بالغ الروعة ، والعظمة ، والجلال .. ولا أعرف في حياة خالد كلها موقفاً ينبئ لإخلاصه العميق وصدقه الوثيق ، مثل هذا الموقف .. فسواء عليه أن يكون أميراً ، أو جنديّاً ..
إن الإمارة ، كالجندية ، كلاهما سبب يؤدي به واجبه نحو الله الذي آمن به ، ونحو الرسول صلى الله عليه وسلم الذي بايعه ، ونحو الدين الذي اعتنقه وسار تحت رايته ..
وجهده المبذول وهو أمير مُطَاع ... كجهده المبذول وهو جندي مُطِيع ..!!
ولقد هيأ له هذا الانتصار العظيم على النفس ، كما هيّأه لغيره طراز الخلفاء الذين كانوا على رأس الأمّة المسلمة والدولة المسلمة يوم ذاك .
أبو بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ ... اسمان لا يكاد يتحرك بهما لسان ، حتى يخطر على البال كل مُعجزٍ من فضائل الإنسان ، وعظمة الإنسان ..
وعلى الرغم من الوُدّ الذي كان مفقوداً ـ أحياناً ـ بين عمر وخالد ، فإن نزاهة عمر ، وعدله ، وورعه ، وعظمَته الخارقة ، لم تكن قطّ موضع تساؤل لدى خالد .. ومن ثم لم تكن قراراته موضع شك ؛ لأن الضمير الذي يُمليها ، قد بلغ من الورع ، ومن الاستقامة ، ومن الإخلاص والصدق أقصى ما يبلغه ضمير مُنزّه ورشيد .
لم يكن أمير المؤمنين عمر يأخذ على خالد من سُوء ، ولكنه كان يأخذ على سيفه التسرُّع ، والحِدّة .. ولقد عبّر عن هذا حين اقترح على أبي بكر عزله إثر مقتل ((مالك بن نويرة)) ، فقال : ((إن في سيف خالد رَهقاً)) . ـ أي: خِفّة ، وحِدّة ، وتَسرّعاً ـ .. فأجابه الخليفة الصّدّيق :
((ما كنت لأشيم سيفاً سَلّه الله على الكافرين)) .
لم يقل عمر إن في خالد رهقاً .. بل جعل الرهق صفة لسيفه لا لشخصه ، وهي كلمات لا تنمُّ عن أدب أمير المؤمنين فحسب ، بل عن تقديره لخالد ـ أيضاً ـ ... وخالد رجل حرب من المهد إلى اللّحد .. فبيئته ، ونشأته ، وتربيته ، وحياته كلها ـ قبل الإسلام وبعده ـ كانت كلها وِعاء لفارس ، مُخاطر ، داهية ..
ثم إن إلحاح ماضيه قبل الإسلام ، والحروب التي خاضها ضد الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، والضربات التي أسقط بها سيفه ـ أيام الشرك ـ رؤوساً مؤمنة ، وجباهاً عابدة ، كل هذا كان له على ضميره ثِقَل مُبهِظ ، جعل سيفه توّاقاً إلى أن يُطوّح من دعامات الشرك أضعاف ما طوّح من حملة الإسلام ..
وإنكم لتذكرون العبارة التي أوردناها أوّل هذا الحديث والتي جاءت في سياق حديثه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال له :
((يا رسول الله .. استغفِر لي كلَّ ما أوضعت فيه من صدّ عن سبيل الله)) .
وعلى الرغم من إنباء الرسول إياه ، بأن الإسلام يجبُّ ما كان قبله ، فإنه ظل يتوسّل على الظفر بعهد من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يستغفر الله له فيما صَنَعت من قبلُ يداه ..
والسيف حين يكون في يد فارس خارق ؛ كخالد بن الوليد ، ثم يحرّك اليدَ القابضة عليه ضمير متوهّج بحرارة التطهّر والتعويض ، ومُفعم بولاء مطلق لدين تُحيط به المؤامرات والعداوات ، فإن من الصعب على هذا السيف أن يتخلى عن مبادئه الصارمة ، وحدّته الخاطفة ..
وهكذا رأينا سيف خالد يُسبب لصاحبه المتاعب .
فحين أرسله النبي عليه الصلاة والسلام بعد الفتح إلى بعض قبائل العرب القريبة من مكة ، وقال له :
((إني أبعثك داعياً ، لا مُقاتلاً)) .
غلبه سيفه على أمره ودفعَه إلى دور المُقاتل .. متخلّياً عن دور الداعي الذي أوصاه به الرسول صلى الله عليه وسلم مما جعله عليه الصلاة والسلام ينتفض جزعاً وألماً حين بلغه صنيع خالد ، وقام مستقبلاً القبلة ، رافعاً يديه ، ومعتذراً إلى الله بقوله :
((اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد)) .
ثم أرسل عليّاً فَودى لهم دماءهم وأموالهم .
وقيل إن خالداً اعتذر عن نفسه بأن عبد الله بن حُذافة السّهمي قال له : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمرك بقتالهم ؛ لامتناعهم عن الإسلام ..
كان خالد يحمل طاقة غير عادية .. وكان يستبدّ به توق عارم إلى هدم عالمه القديم كله .. ولو أننا نبصره وهو يهدم صنَم ((العُزّى)) ، الذي أرسله النبي صلى الله عليه وسلم لهدمِه .
لو أننا نبصره وهو يُدمدم بمعوله على هذه البناية الحجرية ، لأبصرنا رجلاً يبدو كأنه يقاتل جيشاً بأسره ، يُطوّح رؤوس أفراده ، ويبتر بالمنايا صفوفه .
فهو يضرب بيمينه وبشماله ، وبقدمه ، ويصيح في الشظايا المتناثرة ، والتراب المتساقط :
((يا عُزى كفرانك ، لا سُبحانك ؛ إني رأيت الله قد أهانك)) ..!!
ثم يحرقها ويشعل النار في ترابها ..!
كانت كل مظاهر الشرك وبقاياه في نظر خالد ـ كالعُزّى ـ لا مكان لها في العالم الجديد الذي وقف خالد تحت أعلامه .. ولا يعرف خالد أداةً لتصفيتها إلا سيفه ..
وإلا .. ((كفرانك ، لا سُبحانك .. إني قد رأيت الله قد أهانك))..!!
على أنّا إذ نتمنّى مع أمير المؤمنين عمر لو خلا سيف خالد من هذا الرَّهق ؛ فإننا سنظلّ نردّد مع أمير المؤمنين عمر ـ قوله :
((عجزت النساء أن يَلِدْن مثلَ خالد))..!!
لقد بكاه عمر يوم مات بُكاءً كثيراً ، وعلم الناس فيما بعد أنه لم يكن يبكي فقدَه فحسب ، بل ويبكي فرصة أضاعها الموت من عمر إذ كان يعتزم ردّ الإمارة إلى خالد بعد أن زال افتتان الناس به ، ومُحِّصت أسباب عزله ، لولا أن تداركه الموت وسارع خالد إلى لقاء ربّه .
نعم ، سارع البطل العظيم إلى مثواه في الجنّة ..
أما آن له أن يستريح ..؟؟ .. هو الذي لم تشهد الأرض عدوّاً للراحة مثله ..!!
أما آن لجسده المجهد أن ينام قليلاً ...؟؟ .. هو الذي كان يصفه أصحابه وأعداؤه بأنه :
((الرجل الذي لا ينام ، ولا يترك أحداً ينام))..؟؟
أمّا هو ، فلو خيّر لاختار أن يمدّ الله له في عمره مزيداً من الوقت يواصل فيه هدم البقايا المتعفّنة القديمة ، ويتابع عمله وجهاده في سبيل الله والإسلام ...
إن روحَ هذا الرجل ورَيحانه ليُوجدان دائماً وأبداً ، حيث تصهل الخيل ، وتلتمع الأسنّة ، وتخفق رايات التوحيد فوق الجيوش المسلمة .. وإنّه ليقول :
((ما ليلةٌ يُهدى إليّ فيها عَروس ، أو أُبشّر فيها بوليد ، بأحبّ إليّ من ليلة شديدة الجليد ، في سريّة من المهاجرين ، أصبِّح بهم المشركين)) ..
من أجل ذلك ، كانت مأساة حياته ـ في رأيه ـ أن يموت على فراشه ؛ وهو الذي قضى حياته كلها فوق ظهر جواده ، وتحت بريق سيفه ..
هو الذي غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقهر أصحاب الردّة ، وسوّى بالتراب عرشَي فارس والروم ، وقطع الأرض وثباً ، في العراق خطوة خطوة .. حتى فتحها للإسلام ـ وفي بلاد الشام خطوة خطوة ، حتى فتحها كلها للإسلام ...
أميراً ، يحمل شَظَف الجنديّ وتواضعه .. وجنديّاً ، يحمل مسؤولية الأمير وقدوته .
كانت مأساة حياة البطل أن يموت على فراشه ..!!
هنالك قال ودموعه تنثال من عينيه :
((لقد شهِدت كذا ، وكذا زحفاً ، وما في جسدي موضع إلا وفيه ضربة سيف ، أو طعنة رُمح ، أو رمية سهم ..
ثم هآنذا أموت على فراشي حتف أنفي ؛ كما يموت البعير ، فلا نامت أعين الجُبناء)) ..!!
كلمات لا يجيد النطق بها في مثل هذا الموطن ، إلا مثل هذا الرجل .
وحين كان يستقبل لحظات الرحيل ، شرع يُملي وصيَّته ..
أتدرون إلى من أوصى ..؟؟
إلى عمر بن الخطاب ذاته ..!!
أتدرون ماذا كانت تركتُه ..؟
فرسَه وسلاحه ..!!
ثم ماذا ..؟؟
لا شيء أبداً ، مما يقتني الناس ويمتلكون ..!!
ذلك أنه لم يكن يستحوذ عليه وهو حيّ سوى اقتناء النصر وامتلاك الظفر على أعداء الحقّ .. وما كان في متاع الدنيا جميعه ما يستحوذ على حرصه ..
شيء واحد ، كان يحرص عليه في شغف واستماتة .. تلك هي ((قلنسُوتُه)) .. سقطت منه يوم اليرموك ؛ فأضنى نفسه والناس في البحث عنها .. فلمّا عُوتِب في ذلك قال :
((إن فيها بعضاً من شعر ناصية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإني أتفاءل بها ، وأستنصر)) .
وأخيراً ، خرج جثمان البطل من داره محمولاً على أعناق أصحابه ورمَقَته أم البطل الراحل بعينين اختلط فيهما بريق العزم بغاشية الحزن فقالت تودّعه :
أنت خير من ألف ألف من القو
م إذا ما كَبَتْ وجوه الرجال
أشْجاعٌ ..؟ فأنت أشجع من لَيْــ
ــثٍ غَضنْفَر يذودُ عن أشبال
أجوادٌ ..؟ فأنت أجود من سَيــ
ـل غامر يسيلُ بين الجبال
وسمعها ((عمر)) فازداد قلبه خفقاً .. ودمعه دَفقاً .. وقال :
((صدَقَتْ .. والله، إن كان لكذلك)) .
وثوى البطل في مرقَدِهِ .. ووقف أصحابه في خشوع ، والدنيا من حولهم هاجعة ، خاشعة ، صامتة ..
لم يقطع الصمت المهيب سوى صهيل فرس جاءت ـ كما نتخيّلها ـ تركض بعد أن خلعت رَسَنها ، وقطعت شوارع المدينة وثباً وراء جثمان صاحبها ، يقودها عبيرهُ وأريجُه .
وإذا بلغت الجمع الصامت والقبر الرطب لوّحت برأسها ؛ كالراية ، وصَهيلها يصدح .. تماماً مثلما كانت تصنع والبطل فوق ظهرها ، يهدّ عروش فارس والروم ، ويشفي وساوس الوثنية والبغي ، ويزيح من طريق الإسلام كل قوى التقهقر والشرك ..
وراحت ـ وعيناها على القبر لا تزيغان تعلو برأسها وتهبط ، مُلوّحة لسيدها وبطلها ، مُؤدية له تحية الوداع ..!!
ثم وقفت ساكنة ـ ورأسها مرتفع .. وجبهتها عالية : ولكن من مآقيها تسيل دموع غِزار وكبار ..!!
لقد وقفها خالد مع سلاحه في سبيل الله .. ولكن ...هل سيقدر فارس على أن يمتطي صهوتها بعد خالد ..؟؟
وهل ستُذَلل ظهرها لأحد سواه ..؟؟
إيه يا بطل كل نصر ...
ويا فجر كل ليل ...
لقد كنت تعلو بروح جيشك على أهوال الزحف بقولك لجندك :
((عند الصباح يحمد القوم السُّرى)) ..
حتى ذهبت عنك مثَلاً ..
وها أنت ذا ، قد أتممت مَسراك ..
فَلِصباحك الحمد ، أبا سليمان ..!!
ولذكراك المجدُ ، والعِطر، والخُلد ، يا خالد ..!!
ودَعْنا ... نُردّد مع أمير المؤمنين عمر كلماتِه العِذاب الرّطاب التي ودّعك بها ورثاك :
رَحِمَ الله أبا سليمان
ما عند الله خيرٌ مما كان فيه
ولقد عاش حَميداً
وماتَ سعيداً
محمدالمصري- عدد المساهمات : 29
تاريخ التسجيل : 29/11/2009
العمر : 38
مواضيع مماثلة
» ثمرات لا إله إلا الله
» عبد الله بن مسعود
» يا رسول الله ! لماذا أحبك ؟
» أحـاديـث لا تـنشرهـا و لا تنـسبهـا لـلرسـول صلى الله عليه وسلم
» ما الذى أبكى الرسول صلى الله عليه وأله وسلم
» عبد الله بن مسعود
» يا رسول الله ! لماذا أحبك ؟
» أحـاديـث لا تـنشرهـا و لا تنـسبهـا لـلرسـول صلى الله عليه وسلم
» ما الذى أبكى الرسول صلى الله عليه وأله وسلم
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى